للأمانة و الحق
، و حتى تكتمل الرؤية التي نطرحها حول بعض الهواجس المرتبطة بالحركة
العالمية المعاصرة الناشطة في مجال حقوق الإنسان ، ينبغي أن نؤكد أننا لا
نستطيع أن ننكر نبل المقصد الإنساني المجرد للأنشطة المدافعة عن حقوق
الإنسان ، بل و أهمية هذا النشاط النبيل خاصة في العالم الثالث ، حيث تتغول
الدولة ، و تتسع الهوة بين المجتمع و بين النخب السياسية و
العسكرية الحاكمة ، التي تملك كل جبروت القوة و القمع في مواجهة شعوب بائسة
عزلاء ، إن الدفاع عن المضطهدين و المقهورين و المستضعفين يكون واجبا
أخلاقيا فطريا ، ينبع من إنسانية الإنسان قبل أي شيء آخر ، هذه مسلمة
أساسية ينبغي إثباتها في هذا السياق لمنع اللبس ، و إنما التحفظ المهم و
الخطير في هذه المسألة يأتي من الظواهر المؤكدة التي تدلل على وجود نزوع
واضح من جانب بعض القوى العالمية لاستثمار هذا المبدأ النبيل في تحقيق
أغراض سياسية غير نزيهة و غير مبرأة من الهوى و المرض ، كذلك يأتي الحذر من
توظيف ذلك النزوع الإنساني النبيل في الترويج لقيم ثقافية و أخلاقية معينة
معادية للقيم الإسلامية و للشريعة كذلك ؛ فشل الغرب في الترويج لها عبر
الطرق التقليدية للغزو الثقافي و الحضاري ، فحاول أن يستثمر هذه النزعة
النبيلة في الترويج لقيمه الثقافية و الأخلاقية في بلاد المسلمين على وجه
الخصوص ، مع محاولة ابتزاز الضمير الإسلامي بالزعم بأن رفض هذه القيم أو
التحفظ إزاءها يكون إهدارا لحقوق الإنسان ، و سواء اتصل هذا الجانب بأوضاع
المرأة أو التشريع الإسلامي أو الأخلاق بمفهومها العام ، بل إن بعض قوى
التنصير العالمي قد دخلت هذه اللعبة ، و بدأت الترويج للتنصير في بلاد
المسلمين ، و لكن ، باستخدام الباب السحري الجديد ، باب حقوق الإنسان ، عن
طريق الترويج في العالم الإسلامي على وجه الخصوص لمقولة إن حق الارتداد عن
الإسلام هو من حقوق الإنسان الأساسية ، و منع إعلان الردة و السماح بتحويل
بعض أبناء المسلمين إلى نصارى هو اعتداء على حقوق الإنسان ! ، و مما يلفت
انتباهنا إلى هذه اللعبة القذرة ، أن كبير أساقفة كنيسة " كانتربري " ورئيس
الكنيسة الإنجيلية "جورج كاري" عندما قام بزيارة إلى الباكستان في أول
ديسمبر الماضي صرح في إحدى خطبه بقوله : " إن المسلمين لا يجب أن يثوروا من
الذين يغيرون دينهم مرتدين عن الإسلام إلى أديان أخرى كالمسيحية ، ولا يجب
أن يتعرض هؤلاء الأشخاص لعقاب ؛لأن الأمر يتعلق بحرية العقيدة والعبادة " ،
وأشار إلى أن المسيحيين لا يثورون إذا اعتنق مسيحي الإسلام !
و هذا
الكلام ، فضلا عن كونه يفتقر إلى أبسط ضرورات اللياقة و الدبلوماسية ، حيث
يطرح الدعوة إلى تيسير الارتداد عن الإسلام لأبنائه في البلد الذي قام
أساسا على أساس الإسلام ، بعد مواجهات طاحنة مع الهند ، إلا أن الأخطر من
مسألة اللياقة ، هو الدلالات الخطيرة لهذا التصريح ، و الذي يكشف ـ للمرة
الأولى ـ عن لعب حركة التنصير العالمية على وتر حقوق الإنسان في التمهيد
للنشاط التنصيري في بلاد المسلمين ، و بصورة سافرة و بلا حياء ، و مما يلفت
الانتباه في هذه الحادثة ، أن هيثة الإذاعة البريطانية قد بثت تصريحات "
كاري " في حينها في إرسالها الموجه باللغة الإنجليزية ، و لم تبث الخبر في
الإرسال الموجه باللغة العربية إلا بعد عدة أيام من حدوثه ، و هي ملاحظة لا
أستطيع اعتبارها شكلية في هذا المناخ المريب ، كما أن هذه الواقعة بكل
ملابساتها تضع بعض العلمانيين العرب في مأزق شديد الحرج عندما روجوا للدعوة
إلى تيسير ارتداد الشباب عن دين الإسلام بحجة احترام حقوق الإنسان و حريته
، فها هم يكتشفون أنهم إنما كانوا يعبدون الطريق التي خطها أمثال " رئيس
الكنيسة الإنجيلية " و يحلم بها ، لتحقيق ما عجزوا عن تحقيقه في بلاد
المسلمين ، أيام كانوا يستعمرونها بخيلهم و رجلهم و دباباتهم .