فضل التصوف على غيره
ووجوب أخذه عن أهله
بقلم
الفقير إلى مولاهيسار الحباشنة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه والتابعين إلى يوم الدين...
وبعد يا إخوتي في الدين أيدني الله وإياكم بالروح الأمين
فهذه رسالة من مطلبين الأول: فضل التصوف على غيره من العلوم والثاني: وجوب أخذه عن أهله المتخصصين. وأسأل الله العلي القدير أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم وأن يقبلني على عيبي وقصوري إنه سميع قريب مجيب.
المطلب الأول: فضل التصوف على غيره من العلوم
إن الإسلام دين يراد
منه ثمرة ونهج يفضي إلى غاية، وما هذه الغاية إلا حقيقة العبودية وتحقيق
الكمال البشري للنوع الإنساني. ولا شك أن طالب هذه الغاية يحتاج إلى معطيات
هي بمنزلة المعلومات الأولية التي يُحتاج إليها لبلوغ الغاية. ومن هذه
المعطيات معرفة الأحكام الشرعية في العبادات الظاهرية من الفروض العينية والمباديء الأولية الضرورية للغيبيات المتعلقة بصفات الذات الإلهية وحقائق عن
الأرواح الإنسانية ومبتداها ومصيرها وعلاقتها بالهياكل والمواد الأرضية.
إلا أن هذه المعطيات الأولية نقطة. فمن انطبعت في قلبه لم يعد بحاجة إلى
تجزئتها، ومن أجملت في عقله،لم يعد بحاجة غالبا إلى تفصيلها، وإنما تفصيلها
يشرُف بقدر ما يعين طالب الغاية العليا على بلوغ غايته وهي كما قلنا حقيقة
العبودية وتحقيق الكمال البشري الذي هو موضع نظر الله من بين الخليقة.
وما ذلك التفصيل سوى
مرحلة أولية متقدمة عن وضع أول قدم على طريق السلوك القلبي المفضي إلى تلك
الغاية وإنما يتوسع ذلك التفصيل أو يتقلص بحسب جهل الجاهلين وكمال استعداد
الطالبين، كما قال حضرة مدينة العلم، سيدنا على كرم الله وجهه "العلم نقطة كثرها الجاهلون". قال تعالى: {الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب}
فالاجتباء ابتداء من الله بالفتح على العبد وتعليم بالوحي والإلهام فلا
حاجة للتفصيل العلمي عند المجتبى كالأنبياء وخواص الأولياء إلا في مقام
المراجعة أو التبليغ أو البيان. والإنابة سعي من العبد وتعرض للفتوح. وإلى
الله المصير في الحالتين. فمن نظر إلى تلك المعطيات الأولية من الفقه أوعلم
الكلام باعتبار أن العلم بها من شروط الوصول اعتبر ذلك العلم أشرف العلوم
أما من يرتب العلوم من حيث ثمار العمل بها فإن نهاية العمل بهذه العلوم هي
إتقان العبادات الظاهرية وإقامة شرع الله والاقتناع العقلي بمباديء العقيدة
وضرورياتها وهذا بحد ذاته خير عظيم وفيه النجاة من العذاب بلا شك إلا أن
هنالك ما فوقها وإن كانت هي شرطا فيه، ألا وهو إتقان العبادات القلبية
والاعتناق القلبي لمبادئ العقيدة وضرورياتها وأن تعبد الله كأنك تراه وأن
تأتي بمكارم الأخلاق على وجه أقرب للكمال. فعلوم الفقه والكلام وكذلك
الحديث من هذه الوجهة ثانوية إذ قد لا يتبعها وضع القدم في أول طريق السلوك
القلبي الإحساني، فتكون الأفضلية لطريق السلوك (التصوف) ويعتبر العلم والعمل به أشرف العلوم كونه مسبوق (ولا بد) بما قبله وناتج عنه ولا بد ما بعده وهو حقيقة العبودية.
فالعلم مثلا بأن الله
واحد يختلف عن الإيمان بأن الله واحد ويختلف عن الإحسان بأن تعبد الواحد
كأنك ترى الواحد. فالتصوف يجمع الاعتقاد الراسخ إلى الاقتناع المعرفي
المجرد بواسطة مواجهة الروح لأنوار الواحدية وفنائها في توحيدٍ
يُبقى الموحِّد أثرا بعد عين. وذلك الفناء هو الإحسان في أكمل وجوهه. فإن
الإيمان إذا تم وكمل فلا بد وأن يؤدي إلى شهود الجلال والجمال الإلهي قولا
واحدا، وذلك الشهود لا بد وأن يؤدي إلى نسيان الأغيار قولا واحدا. فبقدر ما
ينقص من إيمان المرء ينقص من إحسانه وإذا تم الإيمان فذلكم الإحسان. وهذه
من المسائل الغامضة التي يكثر فيها الخلط. وتشتبه على كثير من العلماء فضلا
عن العامة. والموفق هو من كشف له الله عن معناها وبين له طرفاها ليعرف في
أي محل هو في ميداني العلم والإيمان فلا يتخطى رقاب الصديقين بالتمني ولا
ينزل نفسه منزل العامة بالحيرة. ولكم خاض في مقام الشهود من لم يصح عنده
تصوره أصلا ولو صح عنده تصوره لما خبط فيه خبط عشواء فخلط الحابل بالنابل
ولكم كان التوقف أولى به.
ولما كان الوصول إلى تلك الغاية العظمى مشروطا بوجود القلب السليم {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم} فقد قال حجة الإسلام الغزالي في الإحياء:
"علم التصوف فرض عين، إذ لا يخلو أحد من عيب أو مرض إلا الأنبياء عليهم السلام، للعصمة التي لهم معجزة".
ويقصد بالعيب هنا العيب الأخلاقي كالشح والغضب والبذاءة والجبن والخيانة وغيرها. والمرض هنا هوالمرض القلبي كالشك والكبر والعجب والرياء وحب الدنيا وغيرها، لا المرض الجسدي ولا النفساني بمصطلح الطب الحديث.
وقال الجنيد رضي الله عنه: "لو علمت أن تحت أديم السماءأشرف من هذا العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا لسعيت إليه".
وكذلك قال الإمام الشاذلي رضي الله عنه:
"من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مصراً على الكبائر وهو لا يشعر".
وقال سلطان العلماء العز بن عبد السلام رضي الله عنه:
"والله ما قعد على قواعد الشريعة التي لا تنهدم إلا الصوفية".
وقال ابن البنا في علم التصوف:
وأنكروه ملأ عوام *** لم يفهموا مقصوده فهاموا
وقال:
هل ظاهر الشرع وعلم الباطن *** إلا كجسم فيه روح ساكن
وفي
هذا البيت إيجاز وبلاغة وبلاغ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ولنتفكر في تلك الناقة التي كانت قائمة فلما خرجت روحها وقعت إلى الأرض.
ترى أيهما كان الحامل وأيهما المحمول، الجسم أم الروح؟
وقال ابن البنا:
وكل من أنكر منه شيئا *** فإنما ذلك لسبع أشيابجهله لنفسه الشريفة *** وكونها في أرضها خليفة
وجهله بالعالم المعقول *** وشُغله بظاهر المنقول
وسهوه عن عمل القلوب *** والخوض في المكروه والمندوب
وقال:
تبعه العالم في الأقوال *** والعابد الناسك في الأفعالوفيهما الصوفي في السباق *** لكنه قد زاد بالأخلاق
وقال:
إن العلوم في مقام البحث *** وإن هذا في مقام الإرث
وها هنا أمر مهم: إذ شتان بين
علوم البحث وعلوم الإرث مهما كانت الوسائل في علوم البحث. ولعل ما يقرب
لنا هذه المسألة تعليم رب العزة آدم الأسماء كلها لا عن طريق البحث، وآدم
من النوع الإنساني، وكذلك تعليم النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يكن يعلم
لا من خلال البحث ومحمد من النوع الإنساني.
قال مولانا القطب ابن مشيش رضي الله عنه في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"وفيه ارتقت الحقائق وتنزلت علوم آدم فأعجز الخلائق، وله تضاءلت الفهوم فلم يدركه منا سابق ولا لاحق"
وما إعمال العقل أصلا
إلا في نقل منبثق عن ذلك الفتح الإلهي المباشر بلا واسطة العقل وبالاستغناء
عن آلته، مع الوقوف عند الحد الذي لا يتجاوزه العقل، كما قال البوصيري رضي
الله عنه:
وكلهم من رسول الله ملتمس *** غرفا من البحر أو رشفا من الديموواقفون لديه عند حدهم *** من نقطة العلم أو من شكلة الحكم
ولتوضيح ذلك أقول:
لم يحتج النبي صلى الله
عليه وسلم لبحث عقلي أو تفكير أو حفظ كي يعي كلام الله المنزل عليه
بالوحي. فكان عندما ينقطع الوحي يجد كلام الله محفوظا في قلبه كعملية الطبع
تماما ولا يختلف ذلك عن الوحي من غير القرآن كالحديث القدسي؛ حيث المعنى
هو المنزل دون اللفظ. وهذا لا ينفي كمال العقل المحمدي من حيث التفكير
وقوانينه وكون ما يصدر عن ذلك التفكير من حكمة هو كذلك وحي من نوع آخر قد
نسميه وحيا توفيقيا.
وشاهدي من هذا الكلام
هو أن النفس المحمدية الشريفة هي نفس بشرية رغم خصوصية النبوة والرسالة.
فليس من المستبعد عقلا أن تكون النفس البشرية بعامة تصلح لدرجة أقل من هذا
التلقي المعبر عنه بالإلهام و"التحديث" لغير الأنبياء. وأن لا يحتاج هذا
التلقي إلى العقل إن اعتبرنا العقل محلا لقوانين التفكير والإدراك. وإنما
يأتي دوره بعد التلقي في تفصيل المجمل واستنباط المعاني الجديدة من ذلك
التلقي الأولي أو القياس عليها وغير ذلك من العمليات المنطقية.
يتحدث أهل بعض التخصصات
والاتجاهات الفكرية عن "تجريد التوحيد" وتراهم حوله يدندنون وبه غيرهم
يدينون. وهو عند بعضهم أن لا تطلب العون إلا من الله وأن لا ترفع قبرا وألا
تصلي في مسجد فيه قبر وأن لا تتبرك بأحد! وهو عند آخرين أن تنطلق بتفصيل
وتفريع للتنزيه إلى حد يوجد فصلا هائلا بين اللاهوت والناسوت وكأنك قد جعلت
من الذات الإلهية موضوعا جامدا وأنت الباحث المشرح فأنت الذات الفاعلة في
موضوع منفعل وإن كان قصدهم بخلاف ذلك! فالصوفية وإن كانوا يرفضون قطعا قول
البعض باتحاد اللاهوت بالناسوت كالنصارى والحلولية وغيرهم من أهل الضلال
إلا أنهم في الوقت ذاته لا يقبلون بتلك المسافة الشاسعة بين الله وعبده
التي يغرق في تفصيلها بعض المتكلمة بهدف تنزيه الله، فالصوفي يحب الله
ويعلم أن الله إذا أحبه فإنه يحبه فحسب. ولا يحتاج الصوفي إلى الفهم العقلي
لطبيعة حب الله له. فإذا كان المتكلم يقر بأن الحب أمر قلبي فلا حاجة أن
يقحم العقل حتى لا يفسد على قلبه حال محبة الله وحتى لا تتشوش هذه المفاهيم
القلبية التي أراد الله تعالى لها أن تبقى قلبية فقال {يحبهم ويحبونه} وقال { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}.
أما تجريد التوحيد عند
أهل التصوف فهو أن تصل إلى نتيجة حتمية لمعرفتك أنه الواحد وأن لا فاعل على
التحقيق إلا هو وهذه النتيجة هي أن لا تشهد معه غيره لا افتعالا ولا تصنعا
وإنما حالا تقام فيه ولا تحول عنه حتى لو أردت ذلك، إن جاز أن تريد ذلك.
وخير تعبير لذلك عندهم هو الذكر، فالذكر يتعلق بالأنفاس إن كان جهريا
ويتعلق بضربات القلب إن كان سريا، وهو متعلق في الحالين بالقلب والروح
والسر، فهو بذلك توحيد تشهده ذرات الجسم كلها وتعيشه خلجات القلب كلها، فلا
غرابة إذن أن يكون توحيدهم حياة كاملة وتوحيد غيرهم فكرة سابحة، وشتان بين
حياة كاملة ينطق عنها كل ما يصدر منها، وبين فكرة سابحة تلمس مواطن الحياة
تارة وتتقهقر عنها تارات. ولا نرى أثرا لذلك التوحيد الصوفي أكبر من الأثر
على الأخلاق، ولله در ابن الفارض رحمه الله عندما وصف خمرة الذكر بأنها:
تهذب أخلاق الندامى فيهتدي *** بها لطريق العزم من لا له عزمويكُرم من لم يعرف الجودَ كفُّه *** ويحلُم عند الغيظ من لا له حلم