وجوه من الماضي
(فقدت كل شي بعد أن فقدتك،حتى القلب بكل تضاريسه والعقل بكل خطوطه،فقدت الحياة،وافتقدتك)
أغلقت دفتر مذكراتها بعد أن دونت التاريخ و قارنته بتاريخ تحفظه عن ظهر قلب
نهضت عن كرسي مكتبها الصغير ،واتجهت للسرير و هي تجرجر أقدامها بيأس و كأن تلك الأقدام مقيده بأصفاد الماضي. اراحت رأسها على وسادتها بتثاقل وكأن عقلها يحمل الكثير مما لا يمكن إزالته
بحلقت بسقف الغرفه بصمت ،وهي تكاد تحفظ كل شرخ فيه
ازاحت نظرها عن السقف لتلتقي بالشخص الذي أخترق صمتها،و انصتت له بملل
الممرضه:يرغب الدكتور مقابلتك،هيا اتبعيني
نهضت بتكاسل،فقد اعتادت على روتين مقابلة الأطباء الذين يثقلون رأسها بفلسفه جوفاء،خاصه طبيبها الأصلع
فتحت الممرضة الباب،و هي تحاول تقديمها "لكرسي الإعتراف" كما اعتادت ان تسميه في نفسها
جلست بوهن،فقد أتعبتها المسافه التي قطعتها للوصول لمكتب الدكتور "النفسي" المختص
استلقت على الكرسي كما أعتادت ،وأقفلت عينيها،فقد ملت النظر لسقف الغرفه و كذلك لمعان الضوء المنعكس على رأس طبيبها الأصلع،ولو كان بإمكانها لوضعت اصبعيها في أذنيها حتى لا تسمع حشرجة صوته المزعجة
قطع سيل رغباتها،صوت المتحدث الذي يقرأ حالتها بصوت مرتفع بالقرب منها
: (تعاني من أكتئاب حاد ،وليست لديها الرغبة في الحياة، حاولت الإنتحار عدة مرات ،لا تتحدث إلا بالتنويم المغناطيسي. السبب:فقدت زوجها في حادث سير في بداية زواجها)
انهمرت دموعها وهي لا تكاد تلتقط أنفاسها،"من يتجرأ على التحدث بكل ما ذكر بصوت عال وكأن لا شي مهم بما ذكر؟"
فتحت عينيها،وقد اجتاحها غضب لو اطلقت له العنان لحطم ما حولها
نظرت للمتحدث ،وألجمتها الصدمة."هو! بشحمه ولحمه"
فتحت عينيها بدهشه ،نفضت رأسها ثم أعادت النظر لمن يجلس أمامها،"لا! لا! لقد تغير لون شعره،لقد أصبح داكنا، كذلك جسده بدأ أنحف"
نفضت رأسها ثانية،وما اجتاحها من كلمات وقفت في حلقها وبدأت تخنقها ومنعتها عن التكلم و دموعها بدأت تحجب الرؤية كليا،فصرخت بكل ما استجمعته من قوة
لاااا...لاااا...ليس هو...ليس هو...إياد مات...ماااات...ليس هو)
بدأت بضرب الكرسي بقوة و كأنها تريد أن يوقظها الألم الذي تحسه بيديها،ولكن هناك من ايقظها بلسعة في ذراعها بعد أن قيد حركتها،هدأت حركتها وبدأ عقلها يدرك بأنها تلقت "حقنة مهدئه"
ادارت وجهها ناحية الدكتور القابع بقربها،ولكنها الآن تراه بوضوح،إنه نسخه مطابقه لإياد،أيعقل بأنه لم يمت ،إنه هو بشحمه ولحمه،ولكن مالذي يفعله هنا؟ المفترض وجوده بين النيران و إخمادها و إنقاذ المحتجزين و امتاع أذنه بنغمات الدعاء التي يغدقونها عليه.وليس هنا بين نيران المصحة النفسية و صرخات المجانين الثائره.هو رجل إطفاء و ليس دكتور "نفسي"
-"أمل!ألا تؤمنين بالقدر؟"
كان هذا السؤال يطرح عليها لأول مره منذ أن فقدت "إياد" ،فرفضت الإجابه،فليس هناك ما تجيب به.
-"أمل؟؟؟"ابتسم بإستخفاف،وهذا ما جعلها تنظر إليه بتعجب
-"لماذا تحتفظين بأسم لست بأهلا له؟؟عليك تغييره"
-انه اسمي...مالذي يدعوني لتغييره؟؟
-"ماذا يعني لك الأمل؟؟"
-اتريدني أن أردد جملة لا وجود لها في حياتنا؟!حسنا"الأمل هو النظر للمستقبل بأنه سيكون مشرقا، يحمل في جعبته كل أمانينا وقد تحققت" وهو ابعد ما يمكن أن يكون بحالتي هذه.
-ربما يكون توقف تلك الأماني أفضل من استمرارها
أعقبت بهدوء:-لا...فهي ما يدفعنا للشوق للمستقبل...و بتوقفها لا حاجة لنا بالحياة
-"لو حجب الغمام ضوء الشمس هل سنتوقف عن زرع الأزهار؟"
عقدت حاجبيها و ردت:بالطبع لا..
-"لماذا؟"
-لان الغمام لن يدوم بحجبه
- أليس انقشاع الغمام و عودة ضوء الشمس يعتبر أملا يحتذى به ،فمهما حجبت الغيوم ضوء الشمس ،سيأتي يوم و تنجلي ليعود كل شي كما كان
نظرت إليه بوهن،و تكاد نظراته تحرك شيئا بداخلها قبل كلماته
داهمتها ذكرى ليست ببعيده
إياد وهو يضع يده حول كتفيها،ويشير بيده الأخرى للسماء:اترين صفاء السماء،لو أنه استمر ما حيينا هكذا،لمللنا هذا الوضع،فعندما تغطي الغيوم السوداء السماء و تحجب ضوء الشمس،يجعلنا نتشوق لنرى صفاء السماء و دفء اشعة الشمس
نظر إلى عينيها و بادلته النظر بحب و هي تستمتع بحديثه،فبادرها:تذكري بأن وضع السماء كوضع حياتنا،مهما غطت الظروف القاسية حياتنا،فستأتي أيام صفاء نتلذذ بها
-"أمل! " كان صوت الدكتور
نظرت إليه وقد بدأت دموعها بالإنهمار
-أنا متعبه،ارجوك دعني أذهب.
أقفل الملف أمامه على الفور،نهض و ضغط على الجرس،الذي لبت نداءه الممرضه على عجل.خاطب الممرضه و هو يضع الملف على مكتبه و لا يكاد ينظر إليها
-"اوصلي المريضه إلى حجرتها"
كانت تتبع خطواته مذ اقفل الملف و حتى وضعه على مكتبه.
"إيعقل بأن إياد عاد للحياة؟؟"
امسكت الممرضه بيدها و حرصت على إيصالها لسريرها و التأكد من تدثرها بغطاءه
لم تنم تلك الليله و قد اجتاحها سيل من ذكريات إياد ...كل مواقفها معه تذكرت كل شي و تفاصيل كل موقف جمعها بإياد سوى "ذكرى رحيله"،فلم يكن قلبها على أهبة استعداده ليترجل تلك الذكرى
استمرت مقابلتها مع الدكتور(عمر)،تكلمت عن طفولتها،مراهقتها،شبابها،حتى عن عواطفها.كانت تغدقه بتفاصيل حياتها قبل مقابلتها لإياد.كانت تتكلم بأريحية،لأن عقلها اقنعها بأن الذي أمامها هو إياد،و ماهي عليه الآن ماهو سوى أن التاريخ يعيد نفسه.وهذا ما كان يدركه الدكتور عمر ،والذي طالما هتفت بمناداته باسم "إياد"
حتى أتى ذلك اليوم الذي قرر الدكتور عمر وضع النقط على الحروف.وجه إليها العديد من الأسئله عن الفقيد،اجابت عن بعضها بإقتضاب و رفضت الإجابه عن البعض الآخر،حتى وجه إليها سؤال كاد يشطر قلبها إلى النصف:"أكنت مع إياد اثناء وقوع الحادث؟"
صرخت غاضبه:لا لم أكن معه.
-لكنك كنت معه
-لا لقد كان وحده
-لكن الشرطه وجدتك بالقرب من الحادث
-لا لم أكن معه...ألا تفهم؟!لم أكن معه
-ماذا حدث قبل وقوع الحادث؟
-لم يحدث شي
-فاجأها بسرعه
:إذن فقد كنت معه؟
-ردت بإمتعاض:نعم كنت معه
-ما سبب وقوع الحادث؟
استكانت بهدوء و قالت:أنا متعبه اريد أن أنام
هاجمها بجفاء:بل تريدين الهروب كما هربتي من الحادث
-صرخت :لاااا لم أهرب بل إياد هو السبب.
صرخت بشده و بدأ تنفسها يضيق و هي تضيف بهيجان: لااا بل أنا السبب،لقد رفضت أن يرتاح،أنا من اصررت على أن يذهب بي بالسيارة رغم اعترافه لي بحاجته للراحه ،ولكني رفضت،لقد اجتاحني الجنون حيث طلبت منه الخروج من المنزل رغم تعبه
أخفضت صوتها بتعب و نظرت للأمام و كأن شريط الحادث قد بدأ بثه.تابعت بأسى و بوهن:كنت اداعبه تارة و اغضبه تارة،كنت اعتقد بأن تعبه ليس إلا "مزاج متعكر"وأردت أخراجه منه.حتى ظهر أمامنا صهريج،كنت قد امسكت بيد إياد وأنا اتحداه إن كان بإستطاعته القياده بيد واحده،و بخروج الصهريج فجأة أمامنا،أفلت يده وأنا أصرخ بذعر"لا أريد أن أموت"كنا سنصتدم بالصهريج لامحاله،ولكن إياد فاجأني عندما هم بفتح الباب المجاور لي و بدأ يدفعني للخروج من السيارة قبل الإستطدام
بدأت بالشهيق
-لقد حاولت التشبث به لكنه افلت يده مني و دفعني لخارج السياره
اقفلت عينيها بأسى:واستطدمت سيارته بالصهريج و اندلعت النيران في السياره،ناديت و ناديت ولكن مامن مجيب،لطالما كان على أهبة الإستعداد عندما يدعوه الواجب،ولكن لم يكن هناك من اسرع لإنقاذه، وأعاد له الجميل،تركوووه حتى فقدته...أنا أحتاجه...اريده ...أنا السبب...ليتني لم اخرجه من المنزل ...ليته بقي و بقيت و بقيت حياتنا كما هي بأجمل حله
-وماذا عن إيمانك بالقدر؟هل ستخسرين إيمانك ودينك بسبب شي مقدر من رب السماوات والأرض؟لو فرضنا تبادل الأدوار،وأنت من متي و إياد من بقي على قيد الحياة،وقد بلغ به ماقد بلغ بك،هل ستقبلين بأن يبقى تحت قيود ذكرياتك وقد عزل نفسه عن أحبائه و أهله و وظيفته؟هل سترضين له العيش في قوقعه؟
اجابته وهي تهز رأسها بالرفض وسيل الدموع قد اتخذ مجراه على خديها
-إذن فأنت تؤذين إياد بقوقعتك قبل أن تؤذي نفسك،لم يكن ما حدث بسببك،إنه الشي الذي قدره الله مذ خلق الكون و هو الشي الذي يكتمل فيه إيماننا "الإيمان بالقدر خيره و شره"
كانت هذه الكلمات التي صفعتها لتفيق من غيبوبتها
تحسن وضعها بعد ذلك،و استطاعت الخروج من المستشفى،وقد بدأت ممارسة حياتها الطبيعية
ذات يوم ،اجتاحها حنين لذكرى إياد،ولتقاسيم وجهه،فقادتها قدماها للمستشفى ،فوجدت نفسها تنقاد إلى مكتب الدكتور عمر،ولكنها فوجئت بالممرضه تخبرها بأنه "رحل إلى منطقه أخرى"
اجتاحها الحزن و عادت لمنزلها تجرجر أذيال الخيبه
مضت ثلاث سنوات على تلك الحادثه
كانت تزور إحدى صديقاتها في المستشفى.وقفت عند الإستقبال لتسأل عن غرفة صديقتها.اخترق اذنها صوت تعشقه.نظرت باتجاه الصوت فرأته أمامها؛وقد أمسك بأحد الملفات بيده و يسأل الممرضه وعلى وجهه ابتسامة استهزاء
-"إيمان؟؟"
هز راسه بسخرية و أردف قائلا:أما آن للناس أن تعي معنى لأسمائها؟؟
ضحكت و هي تتذكر سخريته من اسمها و بأن عليها تغييره مادامت ليست أهلا له
لفت نظره تلك الواقفه الضاحكه ؛فتقدم منها و هو يبتسم:أمل؟؟ألست أمل؟؟
-بشحمها و لحمها
-كيف حالك؟
-بخير؛ماذا عنك؟
-بخير
سكت كل منهما و لكن لم تسكت نظراتهما
-لقد عدت للمشفى و سألت الممرضه عنك؛فأخبرتني بأنك قد رحلت
-لم أرحل إلى أي مكان منذ وطأت قدمي هذا المكان
-ولكن الممرضه قالت...
قاطعها:
-أنا من طلب منها ذلك
نظرت إليه بدهشه؛فاستطرد
-لقد كنت أعلم بأن الحنين سيقودك يوما ما للعوده،ولكن ذلك الحنين ليس لي أنا شخصيا ولكن للشبه الذي اتقاسمه مع زوجك رحمه الله.وهذا ما كنت ستفعلينه مع أي شخص يحمل صورة فقيدك،ففضلت الإبتعاد عن حياتك لأمن سلامتك
-وبفضل الله أعيش حياة هانئه
-هل تزوجتي؟
-لا
-أمن اجل...؟
قاطعته
-مات إياد،وحبه مازال حيا في قلبي،ولكن ليس هذا ما منعني من الزواج بعده
-إذن؟؟
-لم أجد هناك من ينتقد الناس من أسمائهم،ويعلن بصراحه بأنهم غير جديري بحمل تلك الأسماء
ضحك بصوت عال،ثم رفع حاجبه في تهكم وسألها
: و هل ستجدين صعوبه في تسمية الأبناء كما اجدها أنا؟؟
ضحكت و هي تهز رأسها و ترد:مالم تدل أسمائهم على مستقبل مبهج
تزوج عمر و أمل و عاشا في رغد و هناء،و هذا ما كانت طفلتاهما تشير إليه"رغد&هناء"
وادركت أمل بأن الحياة لا تكون منعقده بفقد أحدهم أو حياته،بل تستمر كما طلوع الشمس بعد انجلاء الغمام
سبحان الله و بحمده
سبحان الله العظيم