| تاريخ المساهمة 28.04.11 14:18 | |
حياة الاعزب قصة قصيرة للدكتور مصطفى محمود
الجمعة: أنا حاكم لا شريك له على بيت أنيق.. ليس لي ثان في دولتي الصغيرة الجميلة . أستطيع أن أصحى متى شئت .. وأنام متى شئت .. وأخلع ثيابي .. وأغني .. واطرقع مفاصلي .. وأشرب الماء أو العرقسوس أو الويسكي كما يحلو لي ... ليس على أكتافي شئ سوى رأسي ... لا مسئوليات .. لا هموم .. لا مطالب .. لا واجبات .. فأنا أعزب .. كلمة جميلة حلوة .. هذه الكلمة .. أعزب .. لقد تذكرتها وأنا أحلق ذقني .. وأنظر إلى وجهي في المرآة. فصفرت بفمي نشيد المارسيليز احتفالا بالحرية المطلقة التي أعيش فيها .. والامبراطورية الواسعة التي أحكمها .. والتي تتألف من ثلاث غرف وصالة وحمام أنيق بالقيشاني .. سوف أنام الليلة ملء أجفاني .. تحلم بي كل عانس ويحسدني كل زوج .. وتجعل مني بنات السادسة عشرة محورا لمغامراتهن .. ويحمل همي الخادم والبواب والجيران .. ولا أحمل أنا سوى ابتسامة واسعة ساخرة معها آخر نكتة من نكت الموسم .. يقولون إن حياة الأعزب تعاسة .. ووحدة وفراغ .. وفشل .. وهذه خرافة خلقها الازواج لانهم فشلوا في أن يكونوا عزابا ناجحين . ومثلها .. حكاية البيت الدافئ .. والأولاد الذين يمدون بقاء الزوج على الأرض .. والزوجة التي تضئ ظلام الوحدة مثل القنديل . وحديث آخر الليل الذي يتقاسم فيه الزوجان المسرات والهموم.. كل هذه اعلانات مثل الاعلانات التي تروج بيع الصابون وملح كروشن والأسبرو. أما الواقع فهو شئ آخر غير هذه الاعلانات .. فالبيت قد لا يدخله الدفء بالمرة ..والابن قد لا يمد أجل أبيه .. وربما أخذ أجله .. والزوجة قد تكون نكداً .. وحديث آخر الليل غالبا ما تحول الى مراجعة للحسابات تنتهي بخناقة وبأن يعطي كل واحد ظهره لصاحبه ووجهه للحائط .. خذوا الحكمة من أفواه المتزوجين . إن من عادتي أن أترك ملعب الزوجية ينزل فيه أصدقائي .. وأكتفي بالتهليل على كل هدف يصيبه أي واحد من الاثنين .. ومازلت أشكر الله على هذه النصاحة . وأشعر بالتلذذ وأنا أتأمل وجهي في المرآة .. وأجر عليه الموس وأحلقه بعناية قطعة قطعة .. وأبحث عن ينابيع النصاحة في عيني . وأصفر بصوت مرح يخرج من نافوخي .. وأقول أنا حر .. أنا أعزب ..
السبت :
دفتر يومياتي يقول إني محجوز على الغذاء والعشاء لمدة أسبوع مقدما .. إني على حق في إلغاء المطبخ من شقتي .. فما الداعي للمطبخ ما دمت أتغذى في أقرب مطعم وأتعشى عند أقرب صديق .. وأغسل ثيابي عند أقرب مكوجي .. وأعود للبيت لأنام .. لقد قالت لي صديقتي اليوم : ـــ أنت رجل مضيع للوقت .. أنت موزع على طول الشارع الذي تسكن فيه بين البقالين والحلاقين والمكوجية والمطاعم والمخابز.. إن بيتك ليس بيتا .. إنه مجرد سرير سفري .. جراج .. خيمة كشافة .. تتزود بالتموين من كل رصيف .. أنت متشرد .. وفهمت من كلامها أن تلمح لي بالزواج بأسلوب ماكر مهذب .. فقلت لها بهدوء : أنا رجل عصري . لا أضع ثروتي في البيت تحت البلاطة .. وإنما أساهم بها في كل البنوك .. أيكون هذا تضييعا لي .. فقالت في غيظ : ـــ وتساهم بحبك في كل القلوب .. أليس كذلك .. إنك تحاول أن تضمن الواحدة بعقد علاقة مع أخرى .. ولكنك تخسر الاثنين ، لإنك تخسر الثقة .. إن كل شئ في حياتك لا يبعث على الثقة .. وأنت نفسك لا تثق بنفسك .. ودمعت عيناها .. وأردفت في يأس : ـــ إنك تجعل الاخلاص مستحيلا .. ثم تبكي لانك لا تجد الاخلاص .. ألست رجلا مغفلا .. فقلت في ضيق : إن الاخلاص يولد من نفسه ولا يولد بالحقن والمواثيق .. أنا رجل واقعي لا أطلب من الطبيعة البشرية أكثر مما تستطيع أن تعطيه .. ـــ إن الغلب عندك طبيعة .. أنت غلبان. وشعرت بالغيظ .. ربما لأني غلبان فعلا .. ولكني لم أجب بكلمة .. وقالت هي بعد فترة : - أريد أن أعرف .. ماذا تريد من وراء هذا كله .. في مقابل أي شئ تعيش هذه الحياة ؟ وأجبت في يقين : - أريد أن أحتفظ بحريتي .. - بالضبط تريد أن تحتفظ بحريتك .. مجرد احتفاظ .. لأنك لا تفعل بها شيئــاً. ورفعت صوت الراديو ليغطي على صوتها .. وفاض بي الضيق . إن المرأة تفقد نصف جمالها حين تلمح بالزواج .. وتفقد النصف الآخر حينما تتحدث عن الفلسفة والمنطق .. وخصوصا اذا كان كلامها في محله ..
الأحد :
تيقظت متأخرا هذا الصباح .. وفتحت نصف عين على شعاع الشمس الذي يداعب وسادتي .. ثم عدت فأغلقتهما .. وبدأت أفكر من حيث انتهينا في الليلة الماضية . ماذا أريد من هذا كله حريتي .. وماذا أفعل بحريتي .. إني أرفض اختيار طريق لا يقيدني .. وأفضل البقاء في مفترق الطرق .. أعاني الحرية ولا أمارسها . أهو احساس بالمسئولية .. أم جبن .. أم تغفيل ..إني دائما أكتشف أني مثالي من حيث أظن أني واقعي. إن الواقعية لا تقف في مفترق الطرق أبدا.. الواقعية لا تعلق امكانياتها.. وانما تثب وتعمل .. وأنا أعلق كل شئ على مشجب.. ورفعت السماعة لأطلب صديقتي ..فقالت لي إنها خطبت إلى ابن عمها .. وتمنت لي أياما طيبة .. ووضعت السماعة في سكون .. وتلفت حولي .. ولأول مرة أكتشفت أن في شقتي صراصير .. وأن العنكبوت يتدلى من جدرانها .. وتذكرت أن المكوجي قد أخذ كل القمصان للغسيل ولم يحضرها وأن كل الصحون قذرة .. وأحسست أني أكسل من أن أنظف صحنا .. فأرسلت البواب ليشتري لي صحنا جديدا .. ثم زعقت عليه بعد قفز بضع درجات على السلم .. - استنى عندك .. خد اشتري لي قميص كمان علشان ما عنديش قمصان .. وأغلقت الباب .. وعدت أتمشى في الصالة .. ثم بدأت أدير البيك آب .. ووضعت أسطوانتي المحببة. ووقفت في النافذة .. ولكن البيك آب ظل يخشخش .. واكتشفت بعد مدة أن طبقات من التراب واقفة في حلقه .. ولا أدري لماذا تذكرت حكاية الامبراطورية الواسعة التي أحكمها في تلك اللحظة .. وأحسست أني أمبراطور فعلا . ولكن إمبراطور على خرابة .
الاثنين:
ذهبت في زيارة فرج .. وهو صديق قديم أعرفه من عشرين عاما .. ووجدته يدخن الجوزة وسط أولاده الخمسة .. وكان أكبر أولاده يمص عودا من القصب ويضع المصاصة في طربوشه .. وأصغرهم يقف وسط الغرفة بالفانلة واللباس .. يلوح بذراعيه الرفيعتين .. وكانت نونا الضغيرة تخرج لسانها .. ثم تقفز على الكراسي وتؤذن. وكان فرج وسط هذه الهوسة يضحك ويكركر بقلب طليق وبين حين وآخر يفرغ الطربوش من مصاصة القصب في صينية على الأرض قائلا في حنان : - بقه كده يا ولد يا تنتون .. تحط الزبالة في طربوش أبوك ثم يضحك .. - عفاريت الولاد دول .. عفاريت .. وطول الزيارة كنت أفكر في سؤال واحد . كيف أضيق بهذا الصراخ ولا أكاد أحتمله دقيقة واحدة .. وكيف أحتمله فرج عشر سنوات .. وهو يضحك . أهناك سر بين الأب وأولاده .. يجهل كل شئ محتملا .. سر لا يفهمه الأعزب .. ربما .. أنا لم أجرب على كل حال.
الخميس:
بعد ليلة حمراء .. جسمي مثل مدينة اكتسحها زلزال .. أعضائي تهدمت .. عظامي مثل أعمدة معبد .. انهارت .. وانهار فوقها السقف. إني أسأل نفسي .. أهذه هي اللذة .. أهذه هي السعادة التي يتزوج من أجلها الناس ؟ مجانين .. إني لا أجد فيها سببا أتزوج من أجله . إنها مجرد رغبة حمقاء .. لا شأن لي بها .. الطبيعة تدفعني اليها وتشوقني وترغمني .. فأسعى اليها كما يسعى النمل وأمارسها في غباء ثم أفيق على لا شئ .. ولا تبقي من النار الموقدة إلا مجاملات فاترة .. خمس دقائق فقط .. كيف أتزوج من أجل خمس دقائق ..
السبت :
سألت نفسي .. ما هو الحب .. وبعد تفكير طويل اكتشفت أن الحب هو أن يبقى شئ بعد الخمس دقائق .. هو أن تبقى في النفس حاجات تدفع الاثنين على البقاء معا . الحب هو رغبة بين الاثنين لا تستنفذها الطبيعة .. رغبة شخصية لكل منهما في الآخر .. ليس لكونه ذكرا . ولا لكونها أنثى .. ولكن لكونه فلان .. ولكونها فلانة .. ولكونهما مشدودان بخيط من الفضول والدهشة والاعجاب .. كل منهما يحب أن يصغى إلى صوت الآخر .. حتى ولو لم يكن يتكلم .. يصغى إلى صوت وجوده .. فكرت في هذه العبارات ثم ضحكت .. يالي من شاعر وتذكرت أخي وهو يقول لي كل يوم : إلى متى تظل أعزب .. متى تفكر في الزواج . وهو لا يدري أني أعزب لأني أفكر في الزواج .. أقتله تفكيراً كل يوم .. وأفكر في الحب وأقتله تفكيراً .. ثم أقتل نفسي من كثرة التفكير في نفسي .. ثم لا يبقى بعد هذا إلا أشباح ورغبات .. وشبح آخر أحمق ثرثار هو أنا .. لا يفتأ يسأل .. ويسأل .. يسأل لماذا .. وكيف .. ومتى ... وأين .. وإلى أين ..
|
|
| |
| |