الحمد
للّه الّذي أحاط علمُه بالأشياء قبل تكوينها العالم بها في بطونها وظهورها
فهو مكوّن الكائنات فلم تتعدّ حدودها، تعالى عن الإدراك وتقدّس عن رجس
الإشراك } لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ {.? قلوبنا إليه سائرة وأرواحنا في جماله حائرة
صحبنا لطفه قبل وجودنا في العالم المشهود، وقوّمنا بروح اسمه الودود في
مراتب الوجود، فالكائنات تسبّح بحمده، وتنطق بعظمته، له الخلق والأمر، سجد
له الجامد والمتحرّك والنّاطق والصّامت، وسبّحت بحمده المخلوقات أرواحاً
وذواتاً } وإن من شيء إلاّ يسبّح بحمده ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير{.
وأصّلي وأسلمّ على سيّد الوجود صاحب الحوض المورود واللّواء المعقود
والمقام المحمود سيّدنا محمّد r في الأوّلين والآخرين إمام المتّقين وخاتم
النبيّين وقائد الغرّ المحجّلين الّذي أرسله الله رحمةً للمؤمنين بشيراً
ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا، ورضي الله تعالى عن شيخنا
التّجاني تاج الصّوفية وخاتم الأولياء وممدّ العارفين صاحب الكتم المكنون
سرّه في خزائن الصّون المخفيّ عن غيره في عالم البطون بحكم المشيئة
الإلهيّة والإرادة الأزليّة بلا قيد ولا سبب ولا علّة بل بمحض الجود والكرم
والعطاء هبة إلهيّة }قل إن الفضل بيد الله يوتيه من يشاء واللّه ذو الفضل
العظيم{ .كما أثني برضى عن صاحب إرثه الجالس على كرسيّ عرشه بعد مغيبه
الّذي أمره بالخلافة من بعده سيّدي الحاج علي التّماسيني. وبعد سأقدّم
نبذةً عن التّصوف نعرف بها حقيقته ما استطعت إلى ذلك سبيلاً مستعينا بالله
حولاً وقوّةً، مستجديه هدايةً وعرفةً وسائلاً منه توفيقاً وفهماً حتّى
أُهدى إلى السّبيل الأقوم والطّريق الأنجع ،لإيضاح العباراتِ وجلْيِ
الإشارات في هذا الفنّ البديع الذي تكلّم عنه العلماءُ والحكماءُ
والفلاسفةُ.
والتّصوف هو الدّين الخالص الّذي تركنا عليه القائد
الأعظم والمعلّم الأكبرُ، وحمل لواءه الخلفاء الرّاشدون وسار بسيرهم
التّابعون فمنهم الصّديقون والصّالحون والفقهاء والمحدّثون، ومنهم العلماء
فمن هؤلاء السّادة الأجلاّء والعباقرة الأعلام الّذين حملوا لواء الإسلام
بعد عصر الصّحابة ووطّدوا دعائمه في كلّ مكان بالسّيف واللّسان أمثال الحسن
البصري وطاووس اليماني وسعيد بن المسيّب وإبراهيم التيمي واقتدى بهم أئمة
المذاهب الأربعة أبوحنيفة النعمان ومالك بن أنس ومحمد بن إدريس الشّافعي
وأحمد بن حنبل. وأول من ظهرعلى يده اسم التّصوّف هو الحسن البصري رضيع إحدى
زوجات النبي r.
أما التّصوّف من حيث الاسم والاشتقاق فلا يعدّ ذا
أهمّية وهو علم التّزكية وتهذيب النّفوس واتّباع الشّريعة في كلّ قاصية
ودانية ومراقبة النّفس ومحاسبتها والتّخلّق بالقرآن والسّنّة والاتّكال على
الله والرّضى بقدره وهكذا كان أصحاب رسول الله r فالتّصوًف منهم ابتدأ
وبهم اقتدى وسبيلهم اقتفى وإنّما لم يسمّوا أنفسهم بالصّوفيّة حيث أفضل
تسمية لهم هي الصّحبة وحيث لم يظهر هذا الاسم على عهدهم عندما كانت العلوم
رتقاً ثم ظهر بعد أن تمايزت العلوم كالنّحو والصّرف والفقه وعلم الكلام
ونسبة علم التّصوّف من الفقه نسبة علم البلاغة من علم النّحو وعلم التّفسير
من علم القرآن أو نسبة الرّوح من الجسد فالفقيه باحث عن صور العبادة
الظاهرية فثمرته في الظّاهر من حيث سقوط الطّلب وعصمة الدّم والتّصوف، باحث
عن روح تلك العبادات بما تكون به أرجى للقبول وحيث كان الفقيه باحثاً عن
الصّورة الظاهرة نسب إليها قيل إنّه من أهل الظاهر والصّوفي باحث عن روح
تلك العبادات نسب إليها قيل إنه من أهل الباطن، وليس هناك شريعة ظاهرة
وأخرى خفيّة فالشّريعة واحدة والبحث مختلف فمن أنصف عَلِمَ لزوم كلّ منها
للأخرى ومن جهل أمرهم عاداهم وطريقهم معروف منذ عهد النّبوّة. ويقول الإمام
ابن تيميّة في كتابه " الصّوفيّة والفقراء" ص 180 /1928 قال في حقّهم:"هم
أفضل الخلق بعد النّبيّين ولا مشاحّة في الاصطلاح فمن جمع صفاء العلم في
أعلى مرتبة الشّهود الجامع لعلم اليقين وعين اليقين وصفاء العمل في أصفى
مرتبة من الإخلاص وصفاء الحال في ذروة الحبّ فادْعُه من الرّبّانيين أو قلّ
من الصّدّيقين أو قل صوفيّاً فلا جناح عليك فالمسمّى واحد وإن اختلفت
الأسماء فالصّوفية جمعوا بين الشّريعة والحقيقة فالشّريعة منهاجهم وسبيلهم
وهي الصّراط المستقيم الموصل إلى الحقيقة فلا وصول للحقيقة بدون شريعة فمن
تركها ضلّ ومن أعرض عنها غوى فهي الواقف عند الميزان والشّاهد عند الرّحمان
والحقيقة هي مرتبة الإحسان وهي الشّعور والوجدان الّذي يملأ القلب
بالاطمئنان والاستسلام للملك الدّيّان.
والتّصوّف هو علم الأخلاق
وتزكية النّفس وترويضها بالمجاهدة والعمل وملازمة الصّدق والوفاء والأخلاق
الفاضلة ومحاسبة النفس واتّباع السّنّة في كلّ قاصية ودانية، ولقد سلّم
أصحاب المذاهب الأربعة للصّوفيّة وأذعنوا لهم يقول فيهم مالك بن أنس:"من
تفقّه ولم يتصوّف فقد تفسّق ومن تصوّف ولم يتفقّه فقد تزندق ومن جمع بينهما
فقد تحقّق"، وكان أبو حنيفة متأثّرا بالشّيخ الزّاهد المشهود له بالصّلاح
عطاء بن أبي رباح وكان يقول:"ما رأيت أفضل منه"، وكان محمّد بن إدريس
الشّافعي يتردّد على الصّوفية ويجالسهم ويتحدّث عنهم ويقول:"يحتاج الفقيه
للصّوفيه ليفيدوه من العلم مالم يكن عنده"، فقيل له يوماً ما الذي استفدته
منهم؟ قال:قال:"استفدت منهم شيئين قولهم الوقت كالسّيف إن لم تقطعه قطعك،
وقولهم اشغل نفسك بالخير وإلاّ شغلتك بالضًَََّدِّ".
وحاصل الأمر
أنّ الصّوفية هم المتمسّكون بالسّنّة النّبوية يقول شيخ الطّريقة التجانية
جبلُ السّنّة الرّاسخ وطودها الشّامخ سيّدنا ومولانا أحمد بن محمّد
التّجاني t:"زنوا كلامي بميزان الشّرع فما وافق فاعملوا به وما خالف
فاتركوه"، ومن كلام ابن العربي الحاتمي في »الفتوحات المكية«:"من أراد أن
لايضلّ فلا يرمي ميزان الشّريعة من يده طرفة عين ويعتمد ما عليه الأئمّة
المجتهدون ومقلّدوهم ويرفض ما عداه". ومن قوله أيضا:
لا تغترر بالّذي زالت شريعتـــــــــه **
عنه ولو جاء بالأنباء عــــــــــن الله
والقول
الفصل في التّصوّف هو علم على صفوة مختارة من المسلمين قائمين لا يزالون
قائمين على الحقّ ظاهرين عليه لا يضرّهم من خالفهم إلى أن يرث الله الأرض
ومن عليها ولقد أنكر مشربهم وعاب مذهبهم أصحاب قرن الشّيطان و الفتنة
والبهتانِِ الّذين كفّروا أهل القبلة وأضلّوا الجهلةَ وزلزلوا قلوب ضعاف
الإيمان لفهمهم السّقيم لما عليه الطّائفة المختارة فراحوا يروجون أفكارهم
ويبثّون سمومهم فهلكوا وأهلكوا قال عزّ من قائلٍ: } وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا
وَنَصِيرًا {.
ولقد مضى مثل الأوّلين فابتلي آدم باللّعين وصالحاً
بالرّهط المفسدين وسيّدنا محمدٍٍ r بالمستهزئين وموسى بفرعون وهامان وقارون
وابتلى بأهل الرفض الشيخين وبجيش ذي خشب ذا النّورين وبالحروريّة أبا
السّبطين ووالغ الكلب الأبقع في دم الحُسين وقتل الحجّاج ابن الزّبير
وامتحن الخليل بالنمرود والمسيح باليهود والمؤمنون بأصحاب الأخدود وابن
حنبل بابن داود والصّوفيّة بكل مبتدِعٍ مفتون.
زعموا أن التّصوف
أجنبيّ عن الدّين وهو لبابه وأنكروا مشربهم وهو عذب فرات سائغ شرابه
واعتدوا بما عندهم من العلم فحسبوا ضلالاً مالم يعلموا فعلمهم رجم ويقينهم
وهْمٌ ودليلهم سوء الفهم، وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السّقيم
وإن كنت مزكوماً فليس بلائق مقالك هذا المسك ليس بفائحٍ قد تنكر الشّمس
ضوء الشّمس من رمد، وينكر الفم طعم الماء من سقم } يُرِيدُونَ أَنْ
يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ
يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ { ولا حجّة للمنكرين إلاّ
العناد والجحود وليست أقوالهم إلاّ وبالاً عليهم، فالحقّ لا يزال هو هوَ
والله على كلّ شيءٍ شهيد وليس المدّعي لحجّة على المدّعى عليه إلاّ ببيّنة
وشهودٍ ولقد شهد للطّائفة المختارة الكتاب والسّنة والجماعة فالأئمّة
وأصحاب مذاهبهم يكفي ذلك لمن أراد الإنصاف واختار لنفسه العفاف } قُلْ
هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ
اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ{، }
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ
لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ{.
فالصّوفيّة فرّوا إلى الله وهاجروا إليه
وباعوا أنفسهم لمولاه فاشتراهم وأكرم نزلهم وأحسن مثواهم فأعطاهم وأرضاهم
وفي مقعد الصّدق حباهم وبحبّهم اجتباهم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون فهم
المهاجرون حقّاً تركوا شهواتهم وتنصّلوا من حظوظهم وارتقوا بهممهم إلى
أعالي الدّرجات فنالوا ذراها، الله يصطفي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب
فكشف عنهم وأراهم من آياته ما أزاح دجاهم وللتصوّف اليد الطّولى والفضل
الكبير ولقد بلغت المدارس الصّوفية الأوج تنظيماً في المجال العلمي
والاجتماعي والمجال النّظري بجانبيه الفكري والرّوحي كما نشاهد الآف
المدارس والزّوايا من إفريقيا وآسيا وأوروبا حيث دعاة التّصوّف من
التّجانيّين الّذين استطاعوا نشر الإسلام على وجهه الحقيقيّ في هاته
الأصقاع والبلدان وأنّ دولاً تكاد تكون مسلمة تجانيّة بكاملها أمثال
السّنغال ومالي والنيجر ونيجيريا وهي منتشرة في تركيا وإندونيسيا وباكستان
وهي موجودة في جميع بلاد الإسلام. وإنّنا لا ننسى فضل من تقدّم من رجال
التّصوّف في العالم الإسلامي أمثال القادريّة للشيخ عبد القادر الجيلاني
المتوفّى سنة 561 هـ ، والرّفاعيّة لمؤسّسها أحمد الرّفاعي المتوفّى سنة
570 هـ، والشّاذليّة بأقطابها الشّاذلي والمرسي وبن عطاء الله ، والمولديّة
لجلال الدّين الرّومي المتوفّى سنة 672 هـ ، والبدويّة للسّيّد أحمد
البدوي المتوفّى سنة 675 هـ.
أن لهذه الطّرق الفضل الكبير في نشر
الإسلام في العالم. وعلى اختلاف أسمائها فهي واحدة فالهدف واحد والسّلوك
واحد فكلّهم من رسول اللّه ملتمس غرفا من البحر أو رشفاً من الدّيم.