| تاريخ المساهمة 13.02.12 1:28 | |
مقدمة:
بعد أن تحرك سعد بن أبي وقَّاص رضى الله عنه بالجيش الإسلامي الذاهب لحرب الفرس من منطقة "زَرُود" ووصل إلى "شَرَاف"، وكان قوام الجيش الإسلامي الذي معه قد وصل إلى 32 ألف جندي، ووصلته الرسالة العمرية الخالدة التي تُعدّ نموذجًا رائعًا للوصايا التي يمكن أن يوصِي بها الأمراء مَنْ يكلفونهم بالجيوش، واستقرَّ سعد رضى الله عنه في "شراف" منتظرًا أوامر جديدة تأتي من المدينة المنورة.
وصلت رسالة أخرى من عمر بن الخطاب رضى الله عنه بتعبئة الجيش (أي: بتنظيمه وترتيبه وكأنه على قتال)، وأمره بالتحرُّك من "شراف" إلى "القادسية" وهو على تعبئةٍ كاملةٍ حتى إذا باغتته جيوش فارسٍ في أية لحظة يكون على استعداد كاملٍ لها.
بدأ سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه يرتِّب جيشه وهو في "شراف"، فجعل خليفته خالد بن عرفطة وهو أحد فرسان العرب المشهورين، ولم يتوجه لحرب فارس قبل ذلك، وجعل على المقدمة زهرة بن الحُوِيَّة، وكانت لكل الجيوش الإسلامية مقدمات، ولكن سعدًا رضى الله عنه جعل لجيشه مقدمة وطلائع، وكانت فرقة الطلائع من أشد فرسان المسلمين مهارة وجسارة وقوة، واختار لهذه الطلائع قوة من كل القبائل، وكانت تحت إمرة سواد بن مالك، وكانت مهمة الطلائع أن تسير في مقدمة الجيش أبعد من مرمى بصر الجيش، لتكون عيونًا على الجيش الفارسي؛ حتى لا يُباغِت الجيشَ الإسلاميَّ، وتلي المقدمةُ الطلائعَ.
وجعل على المقدمة عبد الله بن المعتم، وعلى الميسرة شُرَحْبِيل بن السِّمْط، وعلى المشاة حَمَّال بن مالك، وعلى الخيول سلمان بن ربيعة الباهلي، وكان من المعروف أن أشد خيول العرب في قبيلة باهلة، وجعل عبد الله الخثعمي على الركبان وهي الإبل، وجعل على مؤخرة الجيش عاصم بن عمرو التميمي، صاحب السبق العظيم في حروب فارس قبل هذه الموقعة.
وجعل كل مجموعة من جيشه تحت إمرة أمير، ثم قسَّم المجموعات إلى رايات، وتحت أمراء الرايات رؤساء القبائل، وتحت كل قبيلة العرفاء، أي على كل عشرة من الجند عريف، فالسُّلَّمُ هرميٌّ، فعلى كل عشرة عريف، وعلى كل مائةٍ رئيس قبيلة، وعلى كل ألف حامي الراية، وعلى كل المجموعة أمير الفرقة سواءً كانت مقدمة أو مؤخرة أو ميمنة أو ميسرة؛ وذلك حتى تصل الأمور بسهولة ويُسْر إلى كل الأفراد.
وتحرك الجيش الإسلامي الكبير على هذه التعبئة من "شراف" إلى الشمال متجهًا إلى "القادسية"، وفي طريقه وصلته رسالة من عمر بن الخطاب t أنِ انْزل بجيشك في عُذَيب الهِجانات (منطقة تبعد عن القادسية بعدة أميال)، وأرسِلْ طلائعك إلى القادسية فهي باب فارس.
كان في هذا الجيش الإسلامي بضعة وسبعون ممن شهدوا بدرًا، وكانوا يُسمُّونهم "البدريين"، وكان في الجيش أيضًا ثلاثمائة ممن له صحبة بعد بيعة الرضوان، وثلاثمائة ممن شهدوا فتح مكة، وسبعمائة من أبناء الصحابة، فكانت هذه ذخيرة قوية للمسلمين.
زوّد عمر بن الخطاب رضى الله عنه الجيش بالأطباء والقضاة، فكان على إمرة القضاة عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي، وهو أخو سلمان بن ربيعة الباهلي القائد على الخيول في الموقعة، وكان رائد الجيش وداعيته سلمان الفارسي رضى الله عنه .
وجعل كاتب الجيش زياد بن أبي سفيان، وجعل مترجم الجيش هلال الهجري وكان يُتْقِن الفارسية والعربية.
وأثناء تحرُّك سعد رضى الله عنه من "شِرَاف" إلى "عذيب الهجانات" أتته الوصية التي كان قد أوصى بها المثنى بن حارثة رضى الله عنه قبل وفاته مع المُعَنَّى بن حارثة، وفي الرسالة: لا تقاتل الفرس إلا على أبواب الصحراء، ولا تعبر نهرًا، وَضَعِ الصحراء في خلفك، حتى إذا كان لك النصر انسحت في أرضهم، وإن كانت الأخرى كانت لك الصحراء مجالاً للرجوع.
وتنطلق هذه الوصية من الاستفادة من خطأ معركة الجسر، وهو عبور المسلمين النهر، فكانت المياه من خلفهم والفرس من أمامهم، واستُشْهِد في "الجسر" وحدها أربعة آلاف من المسلمين، وكان الفرس لا يجرءون على القتال في الصحراء؛ نظرًا لتعدد الدروب والمسالك وكثرة المجاهل بها، وإذا ضلَّ أحد الجيوش فيها فربما يهلك من الجوع والعطش.
ومع وصول رسالة المثنى مع المُعنَّى، وصلت رسالة من عمر بن الخطاب رضى الله عنه أيضًا فيها: ألاّ يقاتل الفرس إلا على أبواب الصحراء، وألا يجعل المياه في خلفه، وأن يجعل الصحراء خلف جيشه.
وكان هذا التوافق في الرأي يدل على بعد النظر وعمق التفكير، فقد استفاد المثنى بن حارثة رضى الله عنه كثيرًا من تجاربه السابقة، وعمر بن الخطاب رضى الله عنه وهو في المدينة يرى الرأي الصائب وهو على بُعد مئات الأميال من القادسية؛ لعمق فكره وحسن تخطيطه وإدارته رضى الله عنه .
القبض على عين للفرس
ويرسل سعد رضى الله عنه طلائعه إلى "عُذَيب الهجانات" قبل أن يصلها هو بالجيش، وكان بها حصن عظيم وهو أول حصون في جنوب فارس، وقد وصلت الطلائع قرب الليل ونظروا فوجدوا للحصن نوافذ كثيرة، وكل مدة يظهر أحد الرجال من إحدى نوافذ الحصن ويختفي مرة أخرى، ثم يظهر آخر في نافذة أخرى ويختفي، وهكذا.
فوقفوا رهبة، وشعروا بوجود جيش للفرس في هذا الحصن، ثم أمرهم حمّال بن مالك بالهجوم على الحصن، ففوجئوا بعدم وجود أحد فيه، ووجدوا رجلاً واحدًا يجري بعيدًا عنهم بفرسه في اتجاه المدائن، فعلموا أنه أحد عيون الفرس، وأنه منطلق لإخبارهم بأمر المسلمين، وانطلقت خلفه الطلائع فأعجزهم ولم يستطيعوا اللحاق به، وقدمت بعد ذلك المقدمة وعليها زهرة بن الحُوِيَّة، فلما علم زهرة بهذا الأمر -أَمْرَ الرجل- قال: والله لو وصل هذا العين إلى فارس، علمت فارس بقدومنا. فأسرع رضى الله عنه بنفسه وسابق خيول المسلمين وسبقهم، وأدرك الرجل في خندق سابور على حدود القادسية واقتتل معه وقتله في خندق سابور، وبهذا لم تصل -حتى هذه اللحظة- أخبار المسلمين إلى فارس بفضل الله تعالى، ثم بفضل هذا المثال النادر من المسلمين "زهرة بن الحُوِيَّة"، والذي أحسنَ سعد بن أبي وقاص باختياره قائدًا على المقدمة.
وقبل أن يصل سعد رضى الله عنه إلى "عُذيب الهجانات" تصله رسالة من عمر بن الخطاب t أن يعسكر في القادسية، وقال له: صِفْ لي المكان كأني أراه رأي العين، ولا تدخل على أرض العراق إلا أن يدخلوا هم عليك.
ويتقدم سعد رضى الله عنه ويصل إلى "عُذَيْب الهِجانات" ويعسكر فيها مدة، إلى أن تكتشف الطلائعُ والمقدمةُ منطقةَ القادسية وما حولها لتأمين دخول الجيش هذه المنطقة.
تختلف خطة الجيش الإسلامي في معركة القادسية عن غيرها من الخطط في المعارك الأخرى، ومن الواضح في معارك الجيش الإسلامي الكثيرة، ومواقعه المتعددة أنه يعتمد خطة الهجوم على الجيوش الفارسية في مواقعها، لكن هذه المرة يأمر عمر بن الخطاب رضى الله عنه الجيش أن يبقى في القادسية ولا يتركها؛ لخوفه من الإعداد الضخم الذي يُعِدُّه الفرس لهذه المعركة، ويحرص على عدم توغل المسلمين في الأراضي الفارسية؛ حفاظًا عليهم من الهلكة.
حل مشكلة الغذاء
كان وصول سعد رضى الله عنه "عذيب الهجانات" في منتصف صفر 15هـ، وعسكر فيها ما يقرب من شهر، وإذا نظرنا إلى العدد الكبير للجيش الإسلامي (32 ألفًا من الجنود)، نجد أنهم كانوا بحاجة دائمة إلى التموينات، وإذا أرادوا أن يأكلوا لحومًا مثلاً كانت الناقة تكفي مائة جندي، ففي اليوم يحتاج إلى 320 من الجمال، فالجيش إذن يحتاج إلى تمويل ضخم جدًّا، وعمر بن الخطاب رضى الله عنه يموِّن الجيش من بيت مال المسلمين، لكن مهما كان حجم ما يأتي من المدينة فلا شك أنه سيكون أقل من حاجة الجيش، وهناك نقص كبير في اللحوم خاصةً، فكلما طالت مدة انتظار الفرس كلما زاد العبء على المسلمين، فبدأ المسلمون بعمل ما يُسمَّى بالغارات التموينية تحفيزًا لإسراع الفرس في القدوم للحرب، وفي الوقت نفسه يتمُّ تموين الجيش من خلال هذه الغارات.
أمر سعد رضى الله عنه الطلائع والمقدمة بعمل هذه الغارات، وأرسل زهرة بن الحُوِيَّة -وهو في "عذيب الهجانات"- فرقة من طلائعه إلى مكان يُسمَّى صِنَّينَ (وهي على بعد 10 إلى 15 كم من الحيرة)، وعلى رأس الفرقة التي لا تتعدى الثلاثين فارسًا بكير بن عبد الله، وتصل الفرقة إلى "صنين" فيسمعون أصوات عُرسٍ لأحد أمراء فارس، ولا شك أن في العرس هدايا ثمينة يهديها الأمراء بعضهم لبعض في هذه المناسبات إلى جانب الماشية والأغنام والإبل وغير ذلك، وينتظر بشير بن عبد الله في وسط الغابات التي كانت منتشرة في تلك المنطقة، وعند مرور العرس ووصول الحامية التي ترافق العرس فهو عرس أميري؛ هجمت الفرقة عليهم ففروا في كل وجهة وتركوا العُرسَ بما فيه، وسبى المسلمون العروسَ والتوابع، وأخذوا الغنائم وعادوا بها، وقبل أن يَصِلُوا كبَّروا، فقال سعد رضى الله عنه لجنوده: أقسم أن هذه تكبيرة قومٍ عُرفت فيهم العز.
فكانت هذه أول الغارات التموينية للمسلمين، وكان فيها إهانة كبيرة لأحد أمراء فارس في زواجه، وبدأ أهل تلك المنطقة يراسلون يزدجرد في المدائن ويخبروه أن جيوش المسلمين على مقربة.
ثم أرسل زهرةُ بن الحُوِيَّة عاصمَ بن عمرو التميمي -وكان قائدًا للمؤخرة- نظرًا لشجاعته إلى منطقة "مَيْسان" شرق الفرات، ووجدوا مجموعة كبيرة من الفلاحين ولكن دون أن يكون معهم أغنام، فتعجبوا من هذا الأمر وهو عدم وجود إبل وماشية في هذه المنطقة الزراعية، فقام أحد الفلاحين وقال: والله ما في هذا المكان من إبل ولا ماشية قَطُّ. فخار ثور ساعتها يكذب الراعي، وذهب المسلمون إلى مصدر الصوت في وسط الغابات الكثيفة، فوجدوا كميات ضخمة من المواشي، وساقوها للجيش، وسُمِّيَ هذا اليوم بيوم الأباقر من كثرة ما أخذوا فيه من البقر، وكان في هذا تموين للجيش فترة كبيرة.
أرسل الأمراء على الفور إلى يزدجرد، وبدأ الفرس يتأثرون ويتحمسون لوقف المسلمين عن شن هذه الغارات التي تقلقهم كثيرًا.
في هذا التوقيت أرسل عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعد أن علم بهذه الأحداث -الغارات التموينية- وبعد أن خشي من اندفاع المسلمين لقتال الفرس في أراضيهم، فقال: "الصبرَ الصبرَ، فإن المعونة تأتي من الله على قدر النية، والأجر على قدر الجهد، والحذرَ الحذرَ على ما أنت عليه، وما أنت بسبيله، واسألوا الله العافيةَ، وأكثروا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وخَفِ اللهَ وارْجُهُ، ولا تغترَّ بشيء. واعلم أن الله قد وعدكم، وتوكَّل لهذا الأمر، فاحذر أن تصرفه عنك فيستبدل بكم غيركم، وصفْ لي مساكنكم كأني أراها، واجعلني من أمركم على الجلية".
ويرسل سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه رسالة إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه يصف له القادسية يقول:
"القادسية مكان بين نهر العتيق وخندق سابور". القادسية هي مكان يقع في الجنوب الغربي للحيرة على أبواب الصحراء، ونهر العتيق هو أحد روافد نهر الفرات يخرج منه متجهًا إلى الغرب، وخندق سابور يقع جنوبي منطقة القادسية، وهو خندق قديم للفرس يحاصر معظم غرب العراق، وفيه بعض الأماكن التي يمكن العبور منها، لكن على كلٍّ منها حصنٌ عظيم لمنع عبور أي مجموعة، وأمام القنطرة الرئيسية للخندق يقع حصن يُسمى "قديس".
يقول سعد رضى الله عنه :
"وعن يمين منطقة القادسية فيض من فيوضهم (أي بحيرة تصل من نهر العتيق وحتى خندق سابور)، وفي شمال القادسية بحر أخضر" أي مستنقع به ماء وشجر كثير.
وعندما وصلت الرسالة إلى عمر رضى الله عنه قال له: "الزم مكانك".
ثم يقول له: "إذا منحك الله أكتافهم، فلا تتركهم حتى تغزو المدائن فإن في ذلك خرابها، والوفاءَ الوفاءَ، فإن الخطأ في الغدر هلكة (أي يوصيه بالوفاء لأهل القرى التي ما زالت على صلحها مع المسلمين) وفيه (أي الغدر) وَهَنُكم وقوة عدوكم، واحذروا أن تكونوا شينًا على المسلمين".
بعد أن سيطرت الطلائع والمقدمة على حصن "قديس"، كان الجيش الإسلامي ما زال في مكانه لم يعبر خندق سابور بعد، وإن كان في نيته العبور.
حال البلاط الفارسي في ذلك الوقت
كان أمراء الفرس يضجون كثيرًا، ويرفعون الشكاوى إلى يزدجرد الثالث كسرى فارس مما يفعله المسلمون في الجنوب، فأرسل إلى رستم -أعظم قائد فارسي على مر التاريخ- وقال له: أتعلم مثل العرب ومثلنا كمثل ماذا؟
فيقول له: مثل ماذا؟
فيقول يزدجرد: مثلنا ومثلهم كمثل عُقاب (طائر ضخم) نزل على وادٍ، وفي هذا الوادي طيور صغيرة كثيرة، وفي كل لحظة ينزل فيخطف طائرًا ويعود، ثم ينزل فيخطف طائرًا ويعود، فأرى أنه لو قامت هذه الطيور كلها مرةً واحدة فرَّ منها هذا العُقاب، وإن حدثت هلكة فهي لطائر واحد.
وفهم رستم من كلامه أنه يريد أن يُخرِج كل طاقة فارس لحرب المسلمين، ثم قالها له: إني أرى أن تخرج طاقة فارس في جيش واحد لملاقاة المسلمين، وتخرج أنت على رأس الجيش.
وغضب رستم من ذلك لا لجبنٍ منه فقد كان قائدًا شجاعًا، لكنه كان يرى أن هذا ليس رأيًا صائبًا -وقد شهد له المؤرخون بذلك- فقال رستم: الرأي رأيك، لكني أرى أن نرسل لهم قوة ثم قوة، فإن لاقتهم الفرقة الأولى وهزموا كان لنا بقية، ثم استبقني هنا فطالما أنا هنا فالعرب على خوفٍ منا.
وتجادلا وأصرَّ كسرى على رأيه، وأطاعه رستم وخرج على رأس الجيش، بعد أن جمّع للمسلمين جيشًا ضخمًا كان قوامه 120 ألف مقاتل و120 ألف تابع، أي مائتين وأربعين ألفًا من الجنود الفارسيين، وهذا أكبر جيش يخرج من فارس على مرِّ العصور، وتحت إمرة رجل واحد فقط، وفيه مائة وعشرون ألفًا يقاتلون، ومائة وعشرون ألفًا أخرى يخدمون المقاتلين، ويمكن أن يشتركوا في القتال عند الحاجة إليهم، فهم بمنزلة مؤخرة الجيش.
وفي هذا الجيش 60 ألفًا من الفرسان، و60 ألفًا من المشاة، و33 فيلاً، وكان للفيل الواحد وزنه في الجيش الفارسي، فما بالنا بـ 33 من الأفيال؟! ومن بينهم الفيل الأبيض قائد الأفيال، وهو الذي قتل أبا عبيد بن مسعود الثقفي في معركة الجسر، إذن فقوة فارس كلها خرجت لحرب المسلمين.
وتعلم المخابرات الإسلامية أن رستم على رأس الجيش، فيرسل سعد بن أبي وقاص t إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن الفرس يُعِدُّون لنا جيشًا لم نسمع عنه من قبل، على رأسه رستم ومن شابهه.
وقد كان على رأس مقدمة جيش فارس "جالينوس" وهو أحد القادة الكبار، وكان قوام المقدمة 40 ألفًا، أي أن مقدمة الفرس وحدها تزيد على كل الجيش المسلم بثمانية آلاف، ومن بين القواد أيضًا بهمن جاذويه الذي انتصر على المسلمين في الموقعة الوحيدة التي انتصر فيها الفُرْسُ (الجسر).
وردَّ عليه عمر بن الخطاب رضى الله عنه قائلاً له: "لا يَفْرِيَنَّك ما يأتيك عنهم، ولا ما يأتونك به، واستعن بالله وتَوَكَّلْ عليه". ثم يقول له: "وابعث إليهم رجالاً من أهل الرأي يدعونهم إلى الإسلام؛ فإن في ذلك وهنًا لهم".
وفد المسلمين إلى كسرى يزدجرد:
ونرى في هذا الموقف حرص عمر بن الخطاب رضى الله عنه على الدعوة إلى الإسلام حتى في هذه الظروف، وإضافة إلى تبليغهم دعوة الإسلام تُرهَب نفوسُهم من جرأة المسلمين عليهم، وبدأ سعد t في انتقاء الوفد الذي يقابل "يزدجرد الثالث" كسرى فارس، ومرَّ على الجيش كله، وانتقى 14 رجلاً؛ سبعة من أهل الرأي وسبعة من أهل المهابة. يقول الرواة: إن الأربعة عشر رجلاً كانوا جميعًا أصحاب هيئة وجسامة، وكانوا جميعًا يزيدون في طولهم على المترين، وعلى رأسهم النعمان بن مُقَرِّن الصحابي الجليل رضى الله عنه الذي أسلم في العام الخامس الهجري، وأول مشاهده غزوة الأحزاب، وأسلم هو وإخوته جميعًا -عشرة إخوة- وشاركوا في فتح فارس، وكان عبد الله بن مسعود رضى الله عنه يقول: إن للنفاق بيوتًا، وإن للإيمان بيوتًا، وإن بيت بني مُقَرِّن لمن بيوت الإيمان، وفيهم نزل قول الله تعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 99]. فكان النعمان رضى الله عنه على رأس هذا الوفد، وكان رجلاً ذا مقالة، ومعه بُسر بن أبي رُهم وقد مر ذكره في فتوح فارس، ونذكر كمين "الولجة" حيث كان على رأس الكمين. ومن الوفد حنظلة بن الربيع وكان من خطباء الجاهلية والإسلام، وسُمِّيَ حنظلة الكاتب. وفرات بن حيان وكان أكثر العرب خبرة بالطرق، وكان قد أسلم في العام الثاني للهجرة. ومع الوفد أيضًا المغيرة بن زرارة أحد صحابة النبي ، ومن أصحاب المقالة أيضًا في الجاهلية والإسلام. وعدي بن سهيل وهذا الاسم غير معروف، ويبدو أنه سهيل بن عدي، ولعله نُقِلَ خطأً.
ومن الوفد أيضًا حَمَلة بن جُويَّة. وكان على رأس أهل المهابة والقوة في الجسد عاصم بن عمرو التميمي رضى الله عنه أخو القعقاع بن عمرو التميمي رضى الله عنه والمُعَنَّى بن حارثة أخو المثنَّى رضي الله عنهما، وعطارد بن حاجب وهذا الرجل هو الوحيد الذي دخل قبل ذلك إيوان كسرى، ولا شك أنه -في الطريق ومع الوفد الذي لم يدخل إيوان كسرى قبل ذلك- سيذكر لهم وصفًا دقيقًا لكرسي كسرى وتاجه وسريره وما يمتلئ به إيوانه من ذهب وفضة وزخارف؛ حتى لا ينبهر الوفد بما لم يره أو يسمع عنه من قبل، فيكون لذلك نتائجه السلبية، فاختياره له هدف.
وعمرو بن معد يكرب وكان من أشهر فرسان العرب، وكان قد فقد إحدى عينيه في سبيل الله، وكان عمر بن الخطاب يسأل: أي سيوف العرب أمضى؟ قالوا: صمصامة. وهي صفة من صفات سيف عمرو بن معديكرب؛ فأرسل له: أن أرسل لي سيفك. فأرسله له، فأمسك به عمر بن الخطاب وضرب به فوجده على غير ما كان يتوقع من القوة والمتانة، فأرسل إليه: والله كنا نظن سيفك على أحسن من هذا. فقال له: والله يا أمير المؤمنين لقد أرسلت إليك بالسيف، ولم أرسل إليك بالساعد الذي يضرب بالسيف.
ومن الوفد أيضًا المغيرة بن شعبة الحارس الشخصي للرسول ، والأشعث بن قيس، والحارث بن حسان أشهر فارس في قبيلة كندة. واختير لهم أفضل أربعة عشر من الخيول، ولبسوا أفضل اللباس، وخرجوا جميعًا لمقابلة يزدجرد ودعوته إلى الإسلام، وعلم الفرس بقدومهم، فخرج الشعب الفارسي ليشاهد هؤلاء العرب الذي كانوا يعتقدون أنهم أعراب أجلاف ليس لهم في الحرب شيء.
تقول إحدى النساء اللائي أسلمن بعد ذلك: فوقفنا ننظر إليهم، والله ما رأينا أربعة عشر مثلهم قَطُّ يعادَلون بألف، وإن خيولهم لتنفث غضبًا وتضرب في الأرض، ووقعت في قلوبنا المهابة وتشاءمنا. وأرسل يزدجرد إلى أهل الرأي يستشيرهم في مقابلة الرسل المسلمين أم لا، فأشاروا عليه أن يقابلهم، فأمر يزدجرد بدخول الوفد عليه والحديث معه
|
|
| تاريخ المساهمة 13.02.12 2:08 | |
|
|