| تاريخ المساهمة 13.02.12 1:23 | |
بهمن جاذويه يقود الجيوش:
بعد أن انتصر المسلمون في معركة النمارق، انتصروا أيضًا في موقعة السقاطية على (نورسي)، وكان قد ثار في تلك المنطقة وهو من الفرس أيضًا، وكان رستم قد أرسله، ولكن أبا عبيد لم يمهله وتوجه إليه وانتصر عليه في 12 من شعبان سنة 13 هـ، وبعدها بخمسة أيام تقدم أبو عبيد إلى "باقسياثا" بالقرب من بابل وانتصر على الجيوش الفارسية بقيادة الجالينوس وهو من كبار قادة الفرس، وكان رستم قد أرسله بعد هزيمة الفرس في النمارق والسقاطية فانتصر عليه أيضًا أبو عبيد في موقعة باقسياثا، ثم انسحب أبو عبيد بن مسعود الثقفي بجيشه إلى الحيرة، وأخذ يدبر الأمر ويوزع الحاميات، واتخذ الحيرة مركزًا له.
تعجب رستم كثيرًا وأصابته الحيرة والدهشة مما يحدث، إذ كيف ينتصر هؤلاء بعد غياب خالد بن الوليد ومعه نصف الجيش؟! ينتصرون على الفرس في ثلاث مواقع متتالية في تسعة أيام؛ فقال رستم: مَنْ أشدُّ الفُرْسِ على العرب؟
فقالوا له: بهمن جاذويه. وكان أحد كبار قادة الفرس، ولم يشترك في الحروب مع المسلمين حتى هذه اللحظة.
فقال رستم: إذن فهو القائد.
وبذلك أعطى رستم إمرة الجيوش الفارسية لـ "بهمن جاذويه" وأخرجه مع جيش كبير يزيد على سبعين ألف فارسي، وأرسل مع هذا الجيش أكثر من عشرة أفيال. ونحن نعرف ما كان يثيره فيل واحد في صفوف المسلمين من فزع وهلع؛ لأن الخيول لا تجرؤ على مواجهة الأفيال، فكانت تحدث ارتباكًا داخل صفوف الجيش المسلم، فما بالنا بعشرة أفيال؟ وأعطى رستم لـ "بهمن جاذويه" أيضًا راية الفرس العظمى وكانت تُسمى "دارفن كابيان"، وكانت هذه الراية لا تخرج إلا مع الملوك، ولكنه أخرجها معه تشريفًا لهذا الجيش وتشجيعًا له على حرب المسلمين، وكان كسرى فارس في هذه اللحظة "بوران بنت كسرى" وكانت من أحكم سيدات فارس، ولم يكن عندهم حينئذ رجل من آل ساسان يُوكِلون إليه مُلك فارس، وكان "شيرويه" قد قتل كل رجال آل ساسان ليستأثر هو بالحكم، ولكنه قُتِل أيضًا، وآل المُلك إلى تلك المرأة بعد ذلك.
توجّه الجيش الفارسي بهذه الجموع الجرارة لقتال المسلمين، وعلم أبو عبيد بذلك فتوجه بجيشه إلى منطقة في شمال الحيرة تسمى "قِسّ النَّاطِف"، وعسكر بجيشه في هذه المنطقة انتظارًا لقدوم جيش الفرس. وقَدِمَ الفُرسُ، ووقفوا على الجانب الآخر من نهر الفرات، فالمسلمون على الناحية الغربية، والفرس على الناحية الشرقية بقيادة بهمن جاذويه، وكان بين الشاطئين جسرٌ عائم أقامه الفرس في هذه الآونة للحرب -وكان الفرس مهرة في بناء هذه الجسور- وأرسل بهمن جاذويه رسولاً إلى الجيش الإسلامي يقول له: إما أن نعبر إليكم، وإما أن تعبروا إلينا.
أبو عبيد يخالف نصيحة عمر:
ونذكر نصيحة عمر بن الخطاب إلى أبي عبيد قبل أن يخرج إلى القتال قال له: لا تُفشِينَّ لك سرًّا؛ لأنك مالكٌ أمرك حتى يخرج سِرُّك من بين جنبيك، ولا تحدِثَنَّ أمرًا حتى تستشير أصحاب رسول الله. وأوصاه خاصة بسعد بن عبيد الأنصاري وسليط بن قيس من الصحابة الكرام رضى الله عنهما جميعًا، وأخطأ أبو عبيد الخطأ الأول فأخذ يناقش أصحابه ويشاورهم أمام رسول الفرس، وهذا إفشاء للسر، ولأمور التنظيم الحربي، وأخذته الحميَّة عندما وصلته الرسالة؛ وقال: والله لا أتركهم يعبرون ويقولون: إنا جَبُنَّا عن لقائهم. واجتمع الصحابة رضى الله عنهما على عدم العبور إليهم: وقالوا له:كيف تعبر إليهم وتقطع على نفسك خط الرجعة، فيكون الفرات من خلفك؟! وقد كان المسلمون وأهل الجزيرة العربية يجيدون الحرب في الصحراء، ودائمًا كان المسلمون يجعلون لأنفسهم خط رجعة في الصحراء، وإذا حدثت هزيمة يستطيع الجيش أن يرجع إلى الصحراء ولا يهلك بكامله، ولكن أبا عبيد أصرَّ على رأيه بالعبور، وذكّره أصحابه بقول عمر بن الخطاب: أنِ اسْتشر أصحاب رسول الله؛ فقال: والله لا نكون عندهم جبناء. وهذا كله يحدث أمام رسول الفرس، الذي استغل الفرصة ليثير حميَّة أبي عبيد، فقال: إنهم يقولون إنكم جبناء ولن تعبروا لنا أبدًا. فقال أبو عبيد: إذن نعبر إليهم. وسمع الجنود وأطاعوا وبدأ الجيش الإسلامي يعبر هذا الجسر الضيِّق للوصول للناحية الأخرى التي يوجد بها الجيش الفارسي.
ونلاحظ في هذا الموقف أن الجيش الإسلامي يدخل في منطقة محصورة بين نهر يُسمى النيل -وهو نهر صغير وأحد روافد نهر الفرات- ونهر الفرات، وكلا النهرين يمتلئ بالمياه، والجيش الفارسي يغلق باقي المنطقة، فلو دخل المسلمون هذا المكان فليس أمامهم إلا القتال مع الجيش الفارسي، والفرس يدركون أهمية هذا الموقع جيدًا، فأخلوا مكانًا ضيقًا ليعبر المسلمون إليهم، ويتكدس الجيش الإسلامي في منطقة صغيرة جدًّا، ويرى المثنى بن حارثة ذلك ويعيد النصيحة لأبي عبيد قائلاً له: إنما تلقي بنا إلى الهَلَكَة. ويصرُّ أبو عبيد على رأيه.
وعبر الجيش الإسلامي بالفعل إلى هذه المنطقة، وكان مع الفُرْسِ كما ذكرنا عشرة أفيال منها الفيل الأبيض، وهو أشهر وأعظم أفيال فارس في الحرب، وتتبعه كل الفيلة إن أقدم أقدموا وإن أحجم أحجموا، وتقدمت الجيوش الفارسية يتقدمها الفيلة إلى الجيش الإسلامي المحصور بين نهري الفرات ورافده نهر النيل، وتراجعت القوات الإسلامية تدريجيًّا أمام الأفيال، ولكن خلفهم نهرين فاضطروا للوقوف انتظارًا لهجوم الفيلة وقتالها، وكانت شجاعة المسلمين وقوتهم فائقة ودخلوا في القتال، ولكن الخيول بمجرد أن رأت الأفيال فزعت وهربت، وكانت سببًا في إعاقة إقدام المسلمين على القتال، وعادت الخيول إلى الوراء وداهمت مشاة المسلمين، ولم تفلح محاولات المسلمين لإجبار الخيول على الإقدام لعدم تمرُّسها على مواجهة الأفيال، وفي هذه اللحظة -وبعد أن أخطأ أبو عبيد في إفشاء السر أمام رسول الفرس، وأخطأ في العبور مخالفًا مشورة أصحاب رسول الله، وأخطأ باختياره هذا المكان للمعركة- كان لا بد عليه أن ينسحب بجيشه سريعًا من أرض المعركة، كما فعل خالد بن الوليد في معركة المذار عندما علم أنه سيكون محاطًا بجيش من الجنوب، انسحب سريعًا بجيشه حتى يقابل جيش الأندرزغر في الولجة.
لكن أبا عبيد استقتل وقال: لأقاتلنَّ حتى النهاية. وإن كانت هذه شجاعة فائقة منه، فإن الحروب كما تقوم على الشجاعة لا بد أن يكون هناك حكمة في التعامل مع الحدث. وبدأت أفيال الفرس تهاجم المسلمين بضراوة، وأمر أبو عبيد أن يتخلَّى المسلمون عن الخيول ويحاربوا الفرس جميعًا وهم مشاة، وفقد المسلمون بذلك سلاح الخيول وأصبحوا جميعًا مشاة أمام قوات فارسية مجهزة بالخيول والأفيال، واشتد وَطِيسُ الحرب ولم يتوانَ المسلمون عن القتال، وتقدم أبو عبيد بن مسعود الثقفي رضى الله عنه وقال: دُلُّوني على مقتل الفيل. كما قال من قبل المثنى بن حارثة رضى الله عنه فقيل له: يُقتَلُ من خرطومه. فتقدم رضى الله عنه ناحية الفيل الأبيض بمفرده، فقالوا له: يا أبا عبيد، إنما تلقي بنفسك إلى التهلكة وأنت الأمير. فقال: والله لا أتركه إما يقتلني وإما أقتله. وتوجه ناحية الفيل وقطع أحزمته التي يُحمل فوقها قائدُ الفيل، ووقع قائد الفيل وقتله أبو عبيد بن مسعود، ولكن الفيل لا يزال حيًّا، وهو مُدَرَّب تدريبًا جيدًا على القتال، وأخذ أبو عبيد يقاتل هذا الفيل العظيم ويقف الفيل على قدميه الخلفيتين ويرفع قدميه الأماميتين في وجه أبي عبيد، ولكنَّ أبا عبيد لم يتوانَ عن محاربته ومحاولة قتله، وعندما شَعَر بصعوبة الأمر أوصى من حوله: إن أنا مِتُّ، فإمرة الجيش لفلان ثم لفلان ثم لفلان؛ ويعدد أسماء من يخلفونه في قيادة الجيش. وهذا أيضًا من أخطاء أبي عبيد؛ لأن أمير الجيش يجب أن يحافظ على نفسه، ليس حبًّا في الحياة ولكن حرصًا على جيشه وجنده في تلك الظروف، وليس الأمر شجاعة فحسب، ولأنه بمقتل الأمير تنهار معنويات الجيش، وتختل الكثير من موازينه. ومن الأخطاء أيضًا أن أبا عبيد أوصى بإمرة الجيش بعده لسبعة من ثقيف منهم ابنه وأخوه والثامن المثنى بن حارثة، وكان الأَوْلى أن يكون الأمير بعده مباشرة المثنى أو سليط بن قيس، كما أوصاه عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
استشهاد أبي عبيد وتولِي المثنى:
ويواصل أبو عبيد قتاله مع الفيل ويحاول قطع خرطومه، لكن الفيل يعاجله بضربة فيقع على الأرض، ويهجم عليه الفيل ويدوسه بأقدامه الأماميتين فيمزِّقهُ أشلاءً -رضى الله عنه وتقبله في الشهداء- وكان موقفًا صعبًا على المسلمين حينما يرون قائدهم يُقتَل هذه القتلة البشعة. ويتولى إمرة الجيش بعده مباشرة أول السبعة ويحمل على الفرس ويستقتل ويقتل، وكذا الثاني والثالث وهكذا، وقد قتل في هذه المعركة ثلاثة من أبناء أبي عبيد بن مسعود الثقفي كان أحدهم أميرًا على الجيش، وقُتِل كذلك أخوه الحكم بن مسعود الثقفي وكان أحد الأمراء على الجيش بعد استشهاد أبي عبيد، وتأتي الإمرة للمثنى بن حارثة والأمر كما نرى في غاية الصعوبة، والفرس في شدة هجومهم على المسلمين، ويصف الأَغَرُّ العجْلِيُّ -وهو أحد صحابة النبي الذين حضروا الموقعة- فيقول: وَخَزَقَ الفرسُ المسلمين بالنشاب (الرماح)، وعضَّ المسلمين الألَمُ.
وفي هذه اللحظة يبدأ بعض المسلمين في الفرار عن طريق الجسر إلى الناحية الأخرى من الفرات، وهذه أول مرة في فتوح فارس يفِرُّ فيها بعض المسلمين من القتال، وهذا الفرار في هذا الموقف له دليل شرعي ولا يُعَدُّ فرارًا من الزحف، وقد قيل: إن الفرار من المثلين جائز، فما بالنا وجيش الفرس ستة أو سبعة أمثال جيش المسلمين؟! ولكن يُخطِئ أحد المسلمين خطأً جسيمًا آخر، فيذهب عبد الله بن مرثد الثقفي ويقطع الجسر بسيفه، ويقول: والله لا يفِرُّ المسلمون من المعركة؛ فقاتلوا حتى تموتوا على ما مات عليه أميركم.
ويُسقَطُ في أيدي المسلمين، ويستأنف الفُرْسُ القتال مع المسلمين، ويزداد الموقف صعوبة، ويُؤتَى بالرجل الذي قطع الجسر إلى قائد الجيش المثنى بن حارثة، فيضربه المثنى، ويقول له: ماذا فعلت بالمسلمين؟ فقال: إني أردت ألا يفرَّ أحد من المعركة. فقال: إن هذا ليس بفرار.
انسحاب منظم عبر الجسر:
وبدأ المثنى رضى الله عنه -وفي هدوء يُحسب له- يقود حركة الجيش المسلم المتبقي بعد الهجمات الفارسية القاسية والشديدة، ويقول لجيشه محمِّسًا لهم: يا عباد الله، إما النصر وإما الجنة. ثم نادى على المسلمين في الناحية الأخرى أن يصلحوا الجسر ما استطاعوا، وكان مع المسلمين بعض الفرس الذين كانوا قد أسلموا وكانوا ذوي قدرة على إصلاح الجسور، فبدءوا يصلحون الجسر من جديد، وبدأ المثنى رضى الله عنه يقود إحدى العمليات الصعبة، وهي عملية انسحاب في هذا المكان الضيِّق أمام القوات الفارسية العنيفة، فأرسل إلى أشجع المسلمين واستنفرهم ولم يستكرههم، وقال: يقف أشجع المسلمين على الجسر لحمايته. فتقدَّم لحماية الجسر عاصم بن عمرو التميمي وزيد الخيل وقيس بن سليط صحابي رسول الله وسيدنا المثنى بن حارثة على رأسهم، ووقف كل هؤلاء ليقوموا بحماية الجيش أثناء العبور، ويحموا الجسر لئلا يقطعه أحد من الفرس، ويقول المثنى بن حارثة للجيش في هدوء غريب: "اعبروا على هيِّنَتِكم ولا تفزعوا؛ فإنا نقف من دونكم، والله لا نزايل (لا نترك هذا المكان) حتى يعبر آخرُكم". ويبدأ المسلمون في الانسحاب واحدًا تلوَ الآخر ويقاتلون حتى آخر لحظة، وتكسو الدماء كل شيء وتكثر جثث المسلمين ما بين قتيل وغريق في النهرين، ويكون آخر شهداء المسلمين على الجسر هو سويد بن قيس أحد صحابة النبي، وآخر من عبر الجسر هو المثنى بن حارثة رضى الله عنه فقد ظل يقاتل حتى اللحظة الأخيرة ويرجع بظهره والفرس من أمامه، وبمجرد عبوره الجسر قطعه على الفُرسِ، ولم يستطع الفرس العبور إلى المسلمين، وعاد المسلمون أدراجهم ووصلوا إلى الشاطئ الغربي من نهر الفرات قبل غروب الشمس بقليل. وكما نعرف فالفرس لم يكونوا يقاتلون بالليل؛ لذا تركوا المسلمين، وكانت فرصة للجيش الإسلامي لكي ينجو منسحبًا إلى عمق الصحراء؛ لأنه لو ظل في مكانه لعبر إليه الجيش الفارسي في الصباح وقضى على من تبقى منه.
في هذا الوقت كان قد فَرَّ من المسلمين ألفانِ، ومنهم من قد وصل في فراره إلى المدينة، واستُشهِد من المسلمين في هذه الموقعة أربعة آلاف شهيد، وكان قد اشترك فيها ثمانية آلاف قُتِلَ منهم أربعة آلاف ما بين شهيد في القتال وغريق في النهر، ومن هؤلاء الآلاف الأربعة غَالِبُ أهل ثقيف، والكثير ممن شهد بدرًا وأُحُدًا والمشاهد مع رسول الله، وكان الأمر شديدًا على المسلمين، ولولا فضل الله تعالى، ثم تولية المثنى بن حارثة الأمر ما كان لمن نجا أن ينجو من هذه المصيدة المحكمة التي أعدها الفرس للمسلمين، وكان المثنى رضى الله عنه كفاءة حربية منقطعة النظير، وهذه هي قيمة القيادة الصائبة، فقد كان أبو عبيد بن مسعود رضى الله عنه تملؤه الشجاعة والإيمان والإقدام، وقد كان أول من استُنفِرَ فخرج للجهاد وفي وجود الكثير من الصحابة رضى الله عنهما نفر قبلهم وأُمِّرَ على الجيش، ودخل الحروب في منتهى الشجاعة ولم تأخذه في الله لومةُ لائمٍ، وتقدم لمهاجمة الفيل وهو يعلم أنه سيُقتَل فيوصي بالإمرة لمن بعده، ولم يتوانَ عن القتال. ومع هذا فإمارة الجيوش ليست شجاعة وإيمان فقط، وإنما لا بد من المهارة العالية والكفاءة الحربية، حتى قال بعض الفقهاء: إذا وُجِِدَ قائدان أحدهما من الإيمان بمكان ولكنه لا يدرك قيمة القيادة والإمارة، والآخر يصل إلى درجة الفسوق لكنه مسلم، ويستطيع قيادة الحروب بمهارة، فلا بأس أن يَلِيَ هذا الفاسقُ قيادة الجيش في الحروب؛ لأنه يستطيع أن ينجو بجيش المسلمين كله، والآخر ربما يؤدي بالجيش إلى الهلكة مع إيمانه وشجاعته.
كانت موقعة الجسر في 23 من شعبان 13هـ، وكان أبو عبيد قد وصل إلى العراق في 3 من شعبان، وكانت أولى حروبه النمارق في 8 من شعبان، ثم السقاطية في 12 من شعبان، ثم باقسياثا في 17 من شعبان، ثم هذه الموقعة في 23 من شعبان، فخلال عشرين يومًا من وصول أبي عبيد بجيشه انتصر المسلمون في ثلاث معارك، وهُزموا في معركة واحدة قضت على نصف الجيش، ومن بقي فرَّ، ولم يبق مع المثنى رضى الله عنه غير ألفين من المقاتلين.
وأرسل المثنى بالخبر إلى المدينة مع عبد الله بن زيد، وعندما يصل إلى المدينة يجد عمر بن الخطاب على المنبر فَيُسِرّ إليه بالأمر نظرًا لصعوبته على المسلمين، فيبكي عمر رضى الله عنه على المنبر، وكان لا بد أن يعلم المسلمون حتى يستنفر الناس للخروج مرة أخرى لمساعدة بقايا الجيش الموجودة في العراق، وبعد أن يبكي يقول: رَحِمَ الله أبا عبيد! لو لم يستقتل وانسحب لكُنَّا له فئة، ولكن قدَّر الله وما شاء فعل. ويأتي بعد ذلك إلى المدينة الفارون والهاربون من المعركة يبكون أشد البكاء، يقولون: كيف نهرب؟! وكيف نفر؟!
وكان هذا الأمر يمثِّل للمسلمين الخزي والعار، ولم يتعودوا قبل ذلك على الفرار من أعدائهم، لكن عمر بن الخطاب رضى الله عنه يطمئنهم ويقول لهم: إنني لكم فئة، ولا يُعَدُّ هذا الأمر فرارًا, وظل رضى الله عنه يحمسهم ويحفزهم، وكان معهم معاذ القارئ وكان أحد مَن فرُّوا، وكان يَؤُمُّ المسلمين في التراويح، فكان كلما قرأ آيات الفرار من الزحف يبكي وهو يصلي، فيطمئنه عمر رضى الله عنه ويقول له: إنك لست من أهل هذه الآية.
أُلَّيس الصغرى.. وعودة الروح:
وبعد أن انسحب المثنى بقواته من الجسر، فعل شيئًا غريبًا، فقد وصل إلى منطقة الحفير، وتابعتهم بعض قوات الفرس في اليوم الثاني للمعركة 24 من شعبان، وكانت هذه القوات على يقين بعدم وجود أي قوات إسلامية في المنطقة، فيأخذ المثنى رضى الله عنه مجموعة من الجيش ويقرر الهجوم على الجيش الفارسي لسحب فرحة النصر منهم، مجرد غارة دون الدخول في قتال عنيف معهم، وتقدم رضى الله عنه صوب أُلَّيْس، وكانت مكان الموقعة التي انتصر فيها المسلمون قبل ذلك بقيادة خالد بن الوليد وقُتِلَ فيها أعدادٌ ضخمةٌ من الفرس، فتقدم نحوها ووجد حامية صغيرة من الفرس تسير على نهر الفرات، فيسرع بفرقته ويحاصر هذه الفرقة الصغيرة، ويقتل من فيها، وكان من بينهم (جابان) وهو الذي فرَّ من أُلَّيْس هَرَبًا، وفرَّ مرةً مكرًا من موقعة النمارق، وقُتِلَ في هذه الحادثة التي سُمِّيَت (أُلَّيْس الصغرى), وقُتل فيها أيضًا مردنشاه وكان رسولاً لبهمن جاذويه إلى أبي عبيد بن مسعود في موقعة الجسر، وعلى صغر حجم هذه الموقعة إلا أنها أحدثت هزّة عنيفة في الجيش الفارسي، فلم يكن الفرس يتوقعون على الإطلاق أنه ما زالت لدى المسلمين قوة تمكنهم من الدخول في أي قتال أو معارك بعد الجسر، كما أحدثت هذه الموقعة الصغيرة رفعًا لمعنويات الجيش الإسلامي.
استنفار عام بالجزيرة العربية:
نعود إلى المدينة وها هو عمر بن الخطاب يُطمْئِنُ العائدين من الجسر أنهم ليسوا فارِّين، وأنه لهم فئة، ويحفّزهم للقتال ومساعدة بقايا الجيش الإسلامي الموجود مع المثنى، وتعود القوات الإسلامية مرة أخرى من المدينة وتصبح قوة الجيش الموجود مع المثنى رضى الله عنه أربعة آلاف مقاتل، وهو عدد قليلٌ بالنسبة للأعداد الجرارة للفرس الموجودة في الناحية الأخرى، فقام عمر بن الخطاب رضى الله عنه بالنفير العام لكل المسلمين في الجزيرة العربية، وأرسل لكل قبيلة رسولاً أن يُخرِجوا من يستطيع منهم الحرب لقتال الفرس، وانتظر المثنى رضى الله عنه قدوم المدد الإسلامي له من المدينة، ويأتي لعمر بن الخطاب رضى الله عنه بعد أن أعلن الاستنفار العام جرير بن عبد الله وهو أحد صحابة النبي، وكان في الشام مع الجيوش الإسلامية الموجودة هناك، ولما علم بأمر موقعة الجسر أتى من فوره بعد أن استأذن قائدَه في الشام، وطلب أن يأتي بقبيلته (بجيلة) للمشاركة في حرب الفرس. وبجيلة هذه كانت إحدى قبائل العرب الموجودة في اليمن، ولما حدث انهيار سد مأرب وفرّت معظم القبائل من اليمن، سكنت كل منها في مكان، وتفرقت قبيلة بجيلة وسكن أهلها كلٌّ في مكان، فاستأذن جرير رضى الله عنه أن يجمع بجيلة وكان ذا رأي فيها، ويأذن له عمر رضى الله عنه لصعوبة الموقف، وقبل ذلك بعام رفض أبو بكر رضى الله عنه هذا الطلب من جرير، وأمره بالذهاب للقتال مع خالد رضى الله عنه
انطلق جرير رضى الله عنه في جميع أنحاء الجزيرة العربية يجوب القبائل مجمِّعًا قبيلته، ومحمِّسًا لهم بأنه لا تُؤتى العرب وبجيلة موجودة فيهم، وظل يستثيرهم بهذا الأمر حتى جُمِع له منهم ألفان، وهو عدد ضخم جدًّا مقارنة بالعدد الذي خرج من المسلمين بعد استنفار عمر بن الخطاب رضى الله عنه للمسلمين ثلاثة أيام دون أن يخرج أحد إلا بعد ذلك، فقد خرج ألف فقط من المسلمين.
وقد كان جرير رضى الله عنه من كبار سادات العرب قبل الإسلام وأشرافهم، وقد أسلم رضى الله عنه سنة 10هـ، أي قبل وفاة النبي بفترة وجيزة، وعندما أتى ليسلم، قال له النبي: "لِمَ جِئْتَ؟"
قال: جئت لأسلم.
فأعطى له النبي وسادة وأجلسه بجواره وقال: "إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ".
يقول جرير رضى الله عنه : لم يكن ينظر إليَّ رسول الله بعد ذلك إلا ابتسم في وجهي.
وكان رضى الله عنه وسيمًا جميلاً، وكان النبي يقول: "وَاللَّهِ إِنَّ جَرِيرًا عَلَيْهِ مَسْحَةُ مَلَكٍ". وكان عمر رضى الله عنه يقول: والله إني لأرى جريرًا يوسف هذه الأمة.
وبعد أن أسلم رضى الله عنه وهو بهذه المكانة، كان يخدم كل المسلمين حتى من هو أصغر منه سنًّا؛ تواضعًا منه واحتسابًا للأجر، يقول أنس بن مالك والله كان يخدمني جرير بن عبد الله، وكان أكبر مني سنًّا. ودخل عليه عمر بن الخطاب رضى الله عنه يومًا وهو يجلس مع أصحابه، فيُحْدِث أحدُ مَنْ حضر من الناس، فيقول عمر رضى الله عنه أقسمتُ على من أحدث أن يقوم فيتوضأ. فيقول جرير رضى الله عنه : أقسمت عليك يا عمر أن تأمرنا أن نتوضأ جميعًا. وذلك لئلاّ يُحرِج مَن أحدث، فيقول عمر رضى الله عنه يا جرير، والله كنت سيدًا في الجاهلية وأنت سيد في الإسلام. فكان رضى الله عنه عظيم القدر في الجاهلية، وفي الإسلام أيضًا.
ويذهب جرير رضى الله عنه بالألفين من الجنود معه إلى عمر بن الخطاب، فيقول لهم: أي الوجوه تحبون؟ فيقولون: الشام الشام أسلافنا.
فيقول عمر رضى الله عنه بل العراق العراق، لقد فتح الله على أهل الشام، وعَضَّ الألم المسلمين في العراق، فاذهبوا وانصروا إخوانكم. فوافقوا، ويبدو أنهم لم يوافقوا سريعًا؛ لأن جريرًا t قام فيهم خطيبًا يحفزهم على القتال والذهاب إلى إخوانهم في العراق، وقال لهم: إنكم لن تُهزَموا، فإما النصر وإما الشهادة.
ويحفِّزهم عمر رضى الله عنه بأكثر من ذلك فيقول: لـ"بجيلة" ربع الخمس من الغنائم. فيكون لهم 5 % من الغنائم إن تم النصر للمسلمين، وهذا نوع من تأليف القلوب والتحميس لهم.
وتخرج قبيلة بجيلة إلى العراق بقيادة جرير بن عبد الله رضى الله عنه عليهم، والجميع تحت إمرة المثنى بن حارثة رضى الله عنه
تخرج أيضًا قبيلة كنانة وعلى رأسها غالب بن عبد الله أحد صحابة النبي القدامى، وشهد كل المشاهد مع رسول الله، وكان النبي يعتمد عليه كثيرًا في العمليات الحربية التي يقوم بها، وأخرجه النبي على رأس الكثير من السرايا، ومنها السرية التي خرجت إلى قبيلة الكديد، ولم يكن معه سوى بضعة عشر رجلاً، وأغاروا على هذه القبيلة إرهابًا لها وكانت على الكفر والعداء للمسلمين، ويذهب رضى الله عنه ويستطيع أن يأتي ببعض الأنعام ويرجع بها، وانتبه له أهل الكديد وعلى الفور تابعوه بأعداد لا قِبَل للمسلمين بها -كما يذكر المؤرخون- فينظر المسلمون وراءهم ويرون هذه الأعداد الغفيرة فيقولون: إنها الهلكة. فيقول سيدنا غالب رضى الله عنه : إن الله معنا. وسبحان الله! يأتي سيلٌ شديد من أعلى الجبل، ويفصل بين الفريقين، ويراه أهل الكديد وهو ينطلق بأنعامهم وماشيتهم دون أن يستطيعوا التحرك إليه؛ نظرًا لهذا السيل الذي أرسله الله بينهم.
ومن حروبه رضى الله عنه أن كان مغيرًا على قبيلة بني مرة مع المسلمين، وكانت هذه سرية من السرايا المشهورة.
أتى غالب بن عبد الله رضى الله عنه مع قومه من بني كنانة، وأمَّره عمر بن الخطاب رضى الله عنه على بني كنانة، وأطلقه تجاه العراق.
ثم أتى من قبيلة الأزد سبعمائة، ومنهم عرفجة بن هرثمة وكان قائدًا للجيش التاسع من جيوش أبي بكر رضى الله عنه في حروب الردة.
ووجهه عمر رضى الله عنه على رأس قبيلته إلى العراق لنصرة الجيوش الإسلامية.
وأرسلت قبيلة تَيْم بعض أفرادها، وأمَّر عليهم عمر رضى الله عنه هلال بن علَّفة.
وقبيلة بني عمرو وهي فرع من فروع قبيلة تميم، وأمّر عليهم عمر رضى الله عنه ربعي بن عامر وهو من أشراف العرب قبل الإسلام وبعده، ومن كبار الصحابة رضى الله عنهما وله مواقف مشهودة سوف تأتي في فتوح فارس.
وأتت مجموعات أخرى من قبائل كثيرة، وبدأت الجيوش الإسلامية تزداد بهذا المدد القادم إليها من المدينة وما حولها.
ووصل تعداد هذا المدد 4000 من المقاتلين، وكان عمر رضى الله عنه قد أذن لمن ارتد وعاد إلى الإسلام أن يشارك في الحروب، فكثير من هؤلاء الآلاف الأربعة كان ممن ارتد عن الإسلام وعاد مرة أخرى، جاءوا إلى هذه المعركة وهم يطلبون الشهادة في سبيل الله تكفيرًا لذنوبهم، وهي فرصة سانحة لأن يرفعوا راية الله في العراق وفي فارس.
ويعلم المثنى بن حارثة رضى الله عنه -وهو في مكانه منتظرًا المدد الإسلامي- أن الجيوش الفارسية قد علمت أن المسلمين ما زالوا معسكرين في أماكنهم، وأن المدد قادم إليهم ولم تنتهِ الحرب كما توقعوا، فأخرجت بوران بنت كسرى جيشًا لقتال المسلمين، وأمَّرت عليه رجلاً يُسمّى مهران، وكان رستم هو الذي يدير هذه العمليات الحربية حتى إمارة "بوران بنت كسرى"، فيخرج هذا الجيش وفيه أكثر من سبعين ألفًا كلهم من الفرسان ومعهم ثلاثة أفيال، فهي أكبر قوة عسكرية تخرج من فارس؛ وذلك للقضاء بشكل نهائي على الجيش الإسلامي.
|
|
| |