| تاريخ المساهمة 29.10.11 23:15 | |
خاطبنا الله تعالى في أواخر سورة التوبة منبها إيانا ، ومخبرا عن أهم بل من صفات الحبيب صلى الله عليه وسلم خلقا : الرحمة و الرأفة. قال سبحانه : ( لقد جائكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) سورة التوبة آ : 128. فبتلك الرحمة ألف الحبيب صلى الله عليه وسلم بين صحابته ، و بالرأفة الرحيمة سرت معاني القرآن و أسراره و فهومه في قلوبهم .فما إن سمعوا ذلك البيان العربي المبين المعجز حتى أذعنت نفوسهم طوعا ممن اجتباهم الله و اصطفاهم للمهام الجسام في عصر الصحبة و النبوة الأولى. ينقصنا ذلك الفهم للقرآن بآداب فهم اللسان العربي الذي جعله الله وعاءا لوحيه و نوره. وغالبا ما يقصد أهل الله تعالى بالنور النبوي المدد الفائض منه إلى من آمن به وصدقه و اتبعه بإحسان على أدب الشريعة و تواضع في عرفان الحقيقة و الوقوف على آداب العبودية الحقة دون طلب حظوظ النفس. فكيف نرتشف من القرآن ذالك النور بعد أن طالت أمد الصحبة و لا تصلنا إلا عن طريق التلمذة و الصحبة لمن سبقونا بالإيمان ؟. لعل الخلاف المصطنع بين المدرستين ، مدرسة أهل العلم الذين يرون في تلقي العلم عن الشيوخ أهل الأسناد ، و أهل التربية في النقيض التام الأسناد التربوي المعروف بالشجرة النورانية ، الشرط الأهم في كلتا المدرستين. و يقف الحائر الباحث في الأمرين فيخاف على نفسه من عواقب الإختيار : فإن أخذ بالشرط الأول وصف بالسلفي ، الوهابي .....و إن أخذ بالشرط الثاني ، كان اللقب الصوفي ، الفقير ، المنقطع ، الزاهد أنيس دربه ، وتاج رأسه على الدوام. ومن الإشكاليات التي لا تنتهي في الفهم أحيانا ، أننا أمام الأمرين ، واجب على من أراد أن يسلك الطريق ، أن نتخذ من الإسناد التربوي و العلمي معا كعلامتين بل من صوى الطريق. الصوفي لا يريد أن يتجاوز عقبة ما ورثه عن الأسلاف في فهم فردي للدين ، فلا تسمو نفسه بل لتلتاع إرادته إلى النوذج النبوي الكامل ، نموذج الدعوة و الدولة .أي النور النبوي التام الذي يغير الفرد و يصنع الأمة و يقود العالمين إلى الله ، بالتفرد في النموذج الأكمل للإنسان. فإن حدثته عن الإتباع الكامل ، كان جوابه :هذا ما علمني شيخي ؟... و كأن فهم الشيخ لجانب من كليات الدين يعصمه من التفريط في الجانب الآخر. بيننا و بين النموذج النبوي و النور التام 15 قرنا ، و بيننا و بين عصر النبوة الأولى زخم كبير من الإجتهادات و التجارب ، فهل تكون هذه الأخيرة حاجزا بل و مانعا من القصد؟. و يأتي آخر فيقول : لا أهم ديني إلا بفهم الأسلاف ؟. و إن عارض فهمه فهم الآخرين ، وكأنك في خضم كبير من الصراع لا ينتهي ، لا يقبل منك عدلا و لا عذرا.و كأن فهمه فهم صحيح لا سقم فيه. فكيف نتلقى النور النبوي ؟ و كيف يكون فهمنا صحيحا سليما ،؟ اشترط علمائنا ممن سبقونا في الإيمان شرط فقه اللغة ، فمن كان كامل الفهم للسان العربي ، كان كامل الفهم للشريعة ، فمفتاح اللسان العربي ، شرط اساسي في فهم الشريعة و فقهها؟ (جزء ماهيته ،هذه عبارة مألوفة عند علماء الأصول، معناها أن العربية جزء لا يتجزأ من الدين، إذ هي حاملته وحاضنته. ومتى دخلت العجمة اللسان، أو حال حائل العجمة دون فهم البيان فقد انغلق ما كان مفتوحا من أبواب الفقه وهو أعظمها، وسارعت إلى الناس الهلكة. أخرج البخاري في تاريخه الكبير أن الحسن البصري رحمه الله قال : "إنما أهلكتكم العجمة !" وقد اتفق علماء الأصول على أن أول آلات المجتهد فهم اللغة العربية فهما واسعا. وفصل الإمام الغزالي رحمه الله الكلام في الحد الأدنى من علم اللغة الضروري للمجتهد فقال : "إنه القدر الذي يفهم به الخطاب العربي، وعادتهم في الاستعمال حين يميز بين صريح الكلام، وظاهره ومجمله، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهه، ومطلقه ومقيده، ونصه وفحواه، ولحنه ومفهومه. وهذا لا يحصل إلا لمن بلغ في اللغة درجة الاجتهاد"[1]. يقتضي هذا أن يكون للمجتهد المتصدي لفهم كتاب الله وسنة رسوله التبحر التام في نحو اللغة وصرفها وبلاغتها حتى يستشف ما يحمله ظاهر اللفظ وما يستتر وراء التراكيب من دقيق المعاني ولطيف التعابير، بذلك فقط يمكنه أن يستخرج الأحكام الشرعية. فلا تقل صحة فهم اللغة عن أهمية صحة النص. فإن دخلت العجمة في اللسان أو حالت عجمة القلب والعقل عن النفوذ إلى أسرار اللغة فلا أمل في أن يبلغ النداء الإلهي محله من الوعي، ولا أن تستشرف العقول المستعجمة المستغربة إلى مجالي العلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولا يغرينا تبجح قوم بفهم العربية، يتصدرون لبسط إيديولوجياتهم ينسبونها للإسلام ويلفقونها حول آيات من القرآن، يموهون باطلاعهم الموسوعي وبهرجة اللفظ وزخرف القول. روى الإمام أحمد رحمه الله عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "اللهم لا تدركني زمانا -أو لا تدركوا زمانا- لا يتبع فيه العليم، ولا يستحيى فيه من الحليم، قلوبهم قلوب الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب" وليس المقصود من الحديث الشريف أعاجم اللسان من المؤمنين، بل عجمة القلب هي انغلاقه عن الإيمان. من أهم الأسباب هذه العجمة القلبية العقلية انصراف ذراري المسلمين من هذا النشء المستغرب عن تلقي الدين من العلماء به، وتلقيهم عن فلاسفة الكفار. قال الإمام الشافعي رضي الله عنه : "ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطوطاليس" لاشك أن ما قصده الإمام بلسان أرسطوطاليس ليس اللغة اليونانية في حد ذاتها، لكن منطق الفلاسفة ومذهبهم. بيد أن مداخلة لسان أعجمي ذي مضمون كفري لا تلبث أن تجر المثقف إلى تشرب روح تلك الثقافة الكافرة. إذ لا يمكن هنا أيضا أن نفصل بين اللغة وما تحمله وتتضمنه من رسالة. فاللغة المادية الإلحادية "جزء ماهية" الكفر. وهنا تعترضنا مشكلة عويصة لمستقبل الإسلام، وهي كيف نتعلم لغات العلوم ونحذقها دون أن تُعديَنا فلسفة تلك اللغات وكفرها. إن هذه الذريعة الخطيرة المفتوحة في جنب الأمة تدخل إلينا منها رياح الفلسفة المادية، ذريعة وثغرة اللغات الأعجمية، لفي حاجة إلى علاج سريع. والمشكلة ذات حدين : الضرورة الملحة لامتلاك تلك اللغات بصفتها حاملة العلوم والتكنولوجيا، وكيف يمكن أن تقيم حاجزا بين متعلم لغة ما وبين ما تتضمنه من عقائد وقيم ؟ العلاج تربوي شامل، فما لم يتحصن المتعلم من داخله، مالم يصلب عوده على الاستقامة، وما لم تكتمل شخصيته الإيمانية فتعريضه للاحتكاك بلغة أعجمية مخاطرة. أكتب هذا في سنة 1985 بتاريخ النصارى، سنة من سنوات استفحال الغزو الثقافي : في عقر كل بيت من بيوتنا معقل للتغريب والتعجيم، فيديو، آلات التقاط لرسائل الأقمار الصناعية اللاحنة بكل لحن. كان تحرز أسلافنا رحمهم الله من العجمة شديدا، فلذلك كان علماؤهم يخالطون عرب البادية يخشون من خلطة أنباط المدن وأعاجمهم. فكان أئمة اللغة حجة يرجع إليها الفقهاء والمجتهدون. والإمام الشافعي رحمه الله نفسه قضى زمانا في البادية ليتعلم اللغة العربية البريئة من كل عجمة. أخرج البيهقي في الشعب عن الأصمعي قال : جاء عمر بن عبيد إلى أبي عمرو بن العلاء يناظره في وجوب عذاب الفاسق. فقال له : يا أبا عمرو ! آللّه يخلف وعده ؟ فقال : لن يخلف الله وعده. فقال عمرو : فقد قال : وذكر عمرو آية فيها وعيده. فقال أبو عبيد : من العجمة أتيت ! الوعد غير الإيعاد، ثم أنشد : وإني إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي أرأيت كيف كانت لفظتان قريبتا المبنى متناقضتا المعنى، الوعد والوعيد، تختلطان في ذهن غير خبير بفصاحة العربية، فأدى ذلك لفهم مخالف. وإن كثيرا من الخلافات المذهبية في العقائد والفقه إنما مرجعه للتفاوت في فهم اللغة كما قال الشافعي رحمه الله. وعلى الكفاءة في فهم اللغة تتفاوت مراتب الباحثين في الشريعة. قال الإمام الشاطبي رحمه الله : "إذا فرضنا مبتدئا في فهم العربية، فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطا فهو متوسط في فهم الشريعة، والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية. فإذا انتهى إلى الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة، فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة. فمن لم يبلغ شأوه فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنه. وكل من قصر فهمه لم يكن حجة ولا كان قوله مقبولا"[2].
[1] نقلا عن كتاب "تاريخ المذاهب الفقهية" لأبي زهرة رحمه الله، جزء2، ص110. [2] المصدر السابق، ص 111. ) مقتبس من كتاب الإسلام و القومية العلمانية .
|
|
| تاريخ المساهمة 30.10.11 0:26 | |
|
|
| تاريخ المساهمة 01.11.11 19:29 | |
موضوع في قمة الروعه
لطالما كانت مواضيعك متميزة
لا عدمنا التميز و روعة الاختيار
دمت لنا ودام تالقك الدائم
=================
|
|
| |
| تاريخ المساهمة 02.04.12 19:14 | |
الموضوع منقول من الركن خاص بي بالشبكة الرفاعية و لايهم فقط للتذكير فالمواضيع كلها ملك خاص لكم
|
|