| تاريخ المساهمة 29.05.11 15:15 | |
فصل
في أحكام المفتين
فيه مسائل :
إحداها : الإفتاء فرض كفاية ، فإذا استفتي وليس في الناحية غيره تعين عليه الجواب ، فإن كان فيها غيره وحضرا فالجواب في حقهما فرض كفاية ، وإن لم يحضر غيره فوجهان أصحهما : لا يتعين لما سبق عن ابن أبي ليلى ، والثاني : يتعين ، وهما كالوجهين في مثله في الشهادة . ولو سأل عامي عما لم يقع لم يجب جوابه . الثانية : إذا أفتى بشيء ثم رجع عنه فإن علم المستفتي برجوعه ، ولم يكن عمل بالأول لم يجز العمل به ، وكذا إن نكح بفتواه واستمر على نكاح بفتواه ثم رجع ، لزمه مفارقتها كما لو تغير اجتهاد من قلده في القبلة في أثناء صلاته ، وإن كان عمل قبل رجوعه فإن خالف دليلا قاطعا لزم المستفتي نقض عمله ذلك ، وإن كان في محل اجتهاد لم يلزمه نقضه; لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد . وهذا التفصيل ذكره الصيمري والخطيب وأبو عمرو ، واتفقوا عليه ، ولا أعلم خلافه ، وما ذكره الغزالي والرازي ليس فيه تصريح بخلافه . قال أبو عمرو : وإذا كان يفتي على مذهب إمام ، فرجع لكونه بان له قطعا مخالفة نص مذهب إمامه ، وجب نقضه وإن كان في محل الاجتهاد; لأن نص مذهب إمامه في حقه كنص الشارع في حق المجتهد المستقل . أما إذا لم يعلم المستفتي برجوع المفتي فحال المستفتي في علمه كما قبل الرجوع ، ويلزم المفتي إعلامه قبل العمل ، وكذا بعده حيث يجب النقض . وإذا عمل بفتواه في إتلاف فبان خطؤه وأنه خالف القاطع فعن الأستاذ أبي إسحاق أنه يضمن إن كان أهلا للفتوى ، ولا يضمن إن لم يكن أهلا; لأن المستفتي قصر . كذا حكاه الشيخ أبو عمرو وسكت عليه ، وهو مشكل وينبغي أن يخرج الضمان على قولي الغرور المعروف في بابي الغصب والنكاح وغيرهما ، أو يقطع بعدم الضمان ; إذ ليس في الفتوى إلزام ولا إلجاء . الثالثة : يحرم التساهل في الفتوى ، ومن عرف به حرم استفتاؤه ، فمن التساهل : أن لا يتثبت ، ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر ، فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنه فلا بأس بالمبادرة ، وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة .
ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة ، والتمسك بالشبه طلبا للترخيص لمن يروم نفعه ، أو التغليظ على من يريد ضره . وأما من صح قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها ، لتخليص من ورطة يمين ونحوها فذلك حسن جميل ، وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا ، كقول سفيان : "إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة ، فأما التشديد فيحسنه كل أحد" . ومن الحيل التي فيها شبهة ويذم فاعلها : الحيلة السريجية في سد باب الطلاق .
الرابعة : ينبغي أن لا يفتي في حال تغير خلقه ، وتشغل قلبه ، ويمنعه التأمل ، كغضب ، وجوع ، وعطش ، وحزن ، وفرح غالب ، ونعاس ، أو ملل ، أو حر مزعج أو مرض مؤلم ، أو مدافعة حدث ، وكل حال يشتغل فيه قلبه ويخرج عن حد الاعتدال ، فإن أفتى في بعض هذه الأحوال وهو يرى أنه لم يخرج عن الصواب جاز وإن كان مخاطرا بها !! الخامسة : المختار للمتصدي للفتوى أن يتبرع بذلك ، ويجوز أن يأخذ عليه رزقا من بيت المال ، إلا أن يتعين عليه وله كفاية ، فيحرم على الصحيح . ثم إن كان له رزق لم يجز أخذ أجرة أصلا ، وإن لم يكن له رزق فليس له أخذ أجرة من أعيان من يفتيه على الأصح كالحاكم . واحتال الشيخ أبو حاتم القزويني من أصحابنا فقال : له أن يقول : يلزمني أن أفتيك قولا ، وأما كتابة الخط فلا ، فإذا استأجره على كتابة الخط جاز . قال الصيمري والخطيب : لو اتفق أهل البلد فجعلوا له رزقا من أموالهم على أن يتفرغ لفتاويهم جاز . أما الهدية فقال أبو مظفر السمعاني له قبولها ، بخلاف الحاكم فإنه يلزم حكمه .
قال أبو عمرو : ينبغي أن يحرم قبولها إن كانت رشوة على أن يفتيه بما يريد كما في الحاكم وسائر ما لا يقابل بعوض . قال الخطيب : وعلى الإمام أن يفرض لمن نصب نفسه لتدريس الفقه والفتوى في الأحكام ما يغنيه عن الاحتراف ، ويكون ذلك من بيت المال ، ثم روى بإسناده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعطى كل رجل ممن هذه صفته مائة دينار في السنة . السادسة : لا يجوز أن يفتي في الأيمان والإقرار ونحوهما مما يتعلق بالألفاظ إلا أن يكون من أهل بلد اللافظ ، أو متنـزلا منـزلتهم في الخبرة بمرادهم من ألفاظهم وعرفهم فيها . السابعة : لا يجوز لمن كانت فتواه نقلا لمذهب إمام إذا اعتمد الكتب أن يعتمد إلا على كتاب موثوق بصحته ، وبأنه مذهب ذلك الإمام ، فإن وثق بأن أصل التصنيف بهذه الصفة لكن لم تكن هذه النسخة معتمدة ، فليستظهر بنسخ منه متفقة ، وقد تحصل له الثقة من نسخة غير موثوق بها في بعض المسائل إذا رأى الكلام منتظما وهو خبير فطن لا يخفى عليه لدربته موضع الإسقاط والتغيير . فإن لم يجده إلا في نسخة غير موثوق بها فقال أبو عمرو : ينظر فإن وجده موافقا لأصول المذهب ، وهو أهل لتخريج مثله في المذهب لو لم يجده منقولا فله أن يفتي به . فإن أراد حكايته عن قائله فلا يقل : قال الشافعي مثلا كذا ، وليقل : وجدت عن الشافعي كذا ، أو بلغني عنه ، ونحو هذا . وإن لم يكن أهلا لتخريج مثله لم يجز له ذلك ، فإن سبيله النقل المحض ، ولم يحصل ما يجوز له ذلك ، وله أن يذكره لا على سبيل الفتوى مفصحا بحاله ، فيقول : وجدته في نسخة من الكتاب الفلاني ونحوه . قلت : لا يجوز لمفت على مذهب الشافعي إذا اعتمد النقل أن يكتفي بمصنف ومصنفين ونحوهما من كتب المتقدمين وأكثر المتأخرين لكثرة الاختلاف بينهم في الجزم والترجيح; لأن هذا المفتي المذكور إنما ينقل مذهب الشافعي ، ولا يحصل له وثوق بأن ما في المصنفين المذكورين ونحوهما هو مذهب الشافعي ، أو الراجح منه; لما فيهما من الاختلاف . وهذا مما لا يتشكك فيه من له أدنى أنس بالمذهب ، بل قد يجزم نحو عشرة من المصنفين بشيء وهو شاذ بالنسبة إلى الراجح في المذهب ، ومخالف لما عليه الجمهور ، وربما خالف نص الشافعي أو نصوصا له ، وسترى في هذا الشرح إن شاء الله تعالى أمثلة ذلك ، وأرجو إن تم هذا الكتاب أنه يستغنى به عن كل مصنف ويعلم به مذهب الشافعي علما قطعيا إن شاء الله تعالى . الثامنة : إذا أفتى في حادثة ثم حدثت مثلها ، فإن ذكر الفتوى الأولى ودليلها بالنسبة إلى أصل الشرع إن كان مستقلا ، أو إلى مذهبه إن كان منتسبا ، أفتى بذلك بلا نظر ، وإن ذكرها ولم يذكر دليلها ولا طرأ ما يوجب رجوعه ، فقيل : له أن يفتي بذلك ، والأصح وجوب تجديد النظر . ومثله القاضي إذا حكم بالاجتهاد ثم وقعت المسألة ، وكذا تجديد الطلب في التيمم ، والاجتهاد في القبلة ، وفيهما الوجهان . قال القاضي أبو الطيب في تعليقه في آخر باب استقبال القبلة : وكذا العامي إذا وقعت له مسألة فسأل عنها ثم وقعت له فليلزمه السؤال ثانيا يعني على الأصح قال : إلا أن تكون مسألة يكثر وقوعها ويشق عليه إعادة السؤال عنها ، فلا يلزمه ذلك ، ويكفيه السؤال الأول للمشقة . التاسعة : ينبغي أن لا يقتصر في فتواه على قوله : في المسألة خلاف ، أو قولان ، أو وجهان ، أو روايتان ، أو يرجع إلى رأي القاضي ، ونحو ذلك ، فهذا ليس بجواب ، ومقصود المستفتي بيان ما يعمل به ، فينبغي أن يجزم له بما هو الراجح ، فإن لم يعرفه توقف حتى يظهر ، أو يترك الإفتاء كما كان جماعة من كبار أصحابنا يمتنعون من الإفتاء في حنث الناسي .
|
|
| تاريخ المساهمة 29.05.11 16:11 | |
سلمت يداك اخي الغالي وبارك الله فيك علي مجهودك الرائع المتميز
|
|