فصل
في
آداب الفتوى فيه مسائل إحداها : يلزم المفتي أن
يبين الجواب بيانا يزيل الإشكال ، ثم له الاقتصار على الجواب شفاها . فإن لم
يعرف لسان المستفتي كفاه ترجمة ثقة واحد; لأنه خبر ، وله الجواب كتابة ، وإن
كانت الكتابة على خطر .
وكان
القاضي أبو حامد كثير الهرب من الفتوى في الرقاع .
قال
الصيمري : وليس من الأدب كون السؤال بخط المفتي ، فأما بإملائه وتهذيبه فواسع ،
وكان الشيخ أبو إسحاق الشيرازي قد يكتب السؤال على ورق له ، ثم يكتب الجواب .
وإذا كان في الرقعة مسائل فالأحسن ترتيب الجواب على ترتيب السؤال ، ولو ترك
الترتيب فلا بأس ، ويشبه معنى قول الله تعالى : (
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] ) ، وإذا كان في
المسألة تفصيل لم يطلق الجواب فإنه خطأ .
ثم
له أن يستفصل السائل إن حضر ، ويقيد السؤال في رقعة أخرى ثم يجيب ، وهذا أولى
وأسلم ، وله أن يقتصر على جواب أحد الأقسام إذا علم أنه الواقع للسائل ، ويقول :
هذا إذا كان الأمر كذا ، وله أن يفصل الأقسام في جوابه ، ويذكر حكم كل قسم .
لكن
هذا كرهه أبو الحسن القابسي من أئمة المالكية وغيره . وقالوا : هذا تعليم الناس
الفجور .
وإذا
لم يجد المفتي من يسأله فصل الأقسام واجتهد في بيانها واستيفائها .
الثانية
: ليس له أن يكتب الجواب على ما علمه من صورة الواقعة إذا لم يكن في الرقعة
تعرض له ، بل يكتب جواب ما في الرقعة ، فإن أراد جواب ما ليس فيها فليقل : وإن
كان الأمر كذا وكذا ، فجوابه كذا .
واستحب
العلماء أن يزيد على ما في الرقعة ما له تعلق بها . مما يحتاج إليه السائل لحديث
:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]الترمذي الطهارة (69) ،
النسائي المياه (332) ، أبو داود الطهارة (83) ، ابن ماجه الطهارة وسننها (386) ،
أحمد (2/361) ، مالك الطهارة (43) ، الدارمي الطهارة (729). هو الطهور ماؤه الحل
ميتته [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] .
الثالثة
: إذا كان المستفتي بعيد الفهم فليرفق به ، ويصبر على تفهم سؤاله ، وتفهيم
جوابه ، فإن ثوابه جزيل .
الرابعة
: ليتأمل الرقعة تأملا شافيا ، وآخرها آكد ، فإن السؤال في آخرها ، وقد
يتقيد الجميع بكلمة في آخرها ويغفل عنها .
قال
الصيمري : قال بعض العلماء : ينبغي أن يكون توقفه في المسألة السهلة كالصعبة
ليعتاده ، وكان محمد بن الحسن يفعله .
وإذا
وجد كلمة مشتبهة سأل المستفتي عنها ونقطها وشكلها ، وكذا إن وجد لحنا فاحشا أو
خطأ يحيل المعنى أصلحه ، وإن رأى بياضا في أثناء سطر أو آخره خط عليه أو شغله;
لأنه ربما قصد المفتى بالإيذاء ، فكتب في البياض بعد فتواه ما يفسدها ، كما بلي
به القاضي أبو حامد المروروذي .
الخامسة
: يستحب أن يقرأها على حاضريه ممن هو أهل لذلك ، ويشاورهم ويباحثهم برفق
وإنصاف ، وإن كانوا دونه وتلامذته ؛ للاقتداء بالسلف ، ورجاء ظهور ما قد يخفى
عليه ، إلا أن يكون فيها ما يقبح إبداؤه ، أو يؤثر السائل كتمانه ، أو في
إشاعته مفسدة .
السادسة
: ليكتب الجواب بخط واضح وسط ، لا دقيق خاف ، ولا غليظ جاف ، ويتوسط في
سطورها بين توسيعها وتضييقها ، وتكون عبارة واضحة صحيحة تفهمها العامة ولا
يزدريها الخاصة .
واستحب
بعضهم أن لا تختلف أقلامه وخطه ; خوفا من التزوير ; ولئلا يشتبه خطه ، قال
الصيمري : قل ما وجد التزوير على المفتي ; لأن الله تعالى حرس أمر الدين .
وإذا
كتب الجواب أعاد نظره فيه; خوفا من اختلال وقع فيه ، أو إخلال ببعض المسؤول عنه
.
السابعة
: إذا كان هو المبتدي فالعادة قديما وحديثا أن يكتب في الناحية اليسرى من
الورقة .
قال
الصيمري وغيره : وإن كتب من وسط الرقعة أو حاشيتها فلا عتب عليه ، ولا يكتب فوق
البسملة بحال ، وينبغي أن يدعو إذا أراد الإفتاء .
وجاء
عن مكحول ومالك -رحمهما الله- أنهما كانا لا يفتيان حتى يقولا : لا حول ولا قوة
إلا بالله .
ويستحب
الاستعاذة من الشيطان ، ويسمي الله تعالى ويحمده ، ويصلي على النبي صلى الله
عليه وسلم وليقل : (
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] رب اشرح لي صدري
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] الآية ونحو ذلك .
قال
الصيمري : وعادة كثيرين أن يبدءوا فتاويهم : (الجواب وبالله التوفيق) ، وحذف
آخرون ذلك ، قال : ولو عمل ذلك فيما طال من المسائل واشتمل على فصول ، وحذف
في غيره ، كان وجها .
قلت
: المختار قول ذلك مطلقا ، وأحسنه الابتداء بقول : (الحمد لله) ، لحديث :
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]أبو
داود الأدب (4840) ، أحمد (2/359). كل أمر
ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أجذم [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] ، وينبغي أن يقوله بلسانه ويكتبه ، قال الصيمري : ولا يدع ختم جوابه بقوله :
(وبالله التوفيق) ، أو : (والله أعلم) ، أو : (والله الموفق) ، قال :
ولا يقبح قوله : (الجواب عندنا) ، أو : (الذي عندنا) ، أو : (الذي نقول
به) ، أو : (نذهب إليه) ، أو : (نراه كذا) ، لأنه من أهل ذلك ، قال :
وإذا أغفل السائل الدعاء للمفتي أو الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر
الفتوى ألحق المفتي ذلك بخطه ، فإن العادة جارية به .
قلت
: وإذا ختم الجواب بقوله : (والله أعلم) ونحوه مما سبق فليكتب بعده : كتبه
فلان ، أو : فلان بن فلان الفلاني ، فينتسب إلى ما يعرف به من قبيلة أو بلدة
أو صفة ، ثم يقول : الشافعي ، أو : الحنفي مثلا ، فإن كان مشهورا بالاسم
أو غيره فلا بأس بالاقتصار عليه .
قال
الصيمري : ورأى بعضهم أن يكتب المفتي بالمداد دون الحبر خوفا من الحك ، قال :
والمستحب الحبر لا غير .
قلت
: لا يختص واحد منهما هنا بالاستحباب ، بخلاف كتب العلم ، فالمستحب فيها
الحبر; لأنها تراد للبقاء ، والحبر أبقى .
قال
الصيمري : وينبغي إذا تعلقت الفتوى بالسلطان أن يدعو له فيقول : (وعلى ولي الأمر
أو السلطان أصلحه الله أو سدده الله أو قوى الله عزمه أو أصلح الله به ، أو شد
الله أزره) ، ولا يقل : (أطال الله بقاءه) ، فليست من ألفاظ السلف .
قلت
: نقل أبو جعفر النحاس وغيره اتفاق العلماء على كراهة قول : (أطال الله بقاءك)
، وقال بعضهم : هي تحية الزنادقة ، وفي صحيح مسلم في حديث أم حبيبة رضي الله
عنها إشارة إلى أن الأولى ترك نحو هذا من الدعاء بطول البقاء وأشباهه .
الثامنة
: ليختصر جوابه ويكون بحيث تفهمه العامة .
قال
صاحب الحاوي : يقول : يجوز ، أو لا يجوز ، أو حق ، أو باطل .
وحكى
شيخه الصيمري عن شيخه القاضي أبي حامد أنه كان يختصر غاية ما يمكنه ، واستفتي في
مسألة آخرها : يجوز أم لا ؟ فكتب : (لا ، وبالله التوفيق) .
التاسعة
: قال الصيمري والخطيب : إذا سئل عمن قال : (أنا أصدق من محمد بن عبد الله
) ، أو (الصلاة لعب) ، وشبه ذلك ، فلا يبادر بقوله : هذا حلال الدم أو :
عليه القتل ، بل يقول : إن صح هذا بإقراره ، أو بالبينة ، استتابه السلطان
، فإن تاب قبلت توبته ، وإن لم يتب فعل به كذا وكذا ، وبالغ في ذلك وأشبعه .
قال
: وإن سئل عمن تكلم بشيء ، يحتمل وجوها يكفر ببعضها دون بعض قال : يسأل هذا
القائل . فإن قال : أردت كذا ، فالجواب كذا .
وإن
سئل عمن قتل أو قلع عينا أو غيرها احتاط ، فذكر الشروط التي يجب بجميعها القصاص .
وإن
سئل عمن فعل ما يوجب التعزير ، ذكر ما يعزر به فيقول : يضربه السلطان كذا وكذا
، ولا يزاد على كذا ، هذا كلام الصيمري والخطيب وغيرهما .
قال
أبو عمرو : ولو كتب : عليه القصاص ، أو التعزير بشرطه ، فليس ذلك بإطلاق ،
بل تقييده بشرطه يحمل الوالي على السؤال عن شرطه والبيان أولى .
العاشرة
: ينبغي إذا ضاق موضع الجواب أن لا يكتبه في رقعة أخرى خوفا من الحيلة ،
ولهذا قالوا : يصل جوابه بآخر سطر ، ولا يدع فرجة; لئلا يزيد السائل شيئا
يفسدها ، وإذا كان موضع الجواب ورقة ملصقة كتب على الإلصاق ، ولو ضاق باطن
الرقعة وكتب الجواب في ظهرها كتبه في أعلاها إلا أن يبتدئ من أسفلها متصلا
بالاستفتاء فيضيق الموضع فيتمه في أسفل ظهرها ليتصل جوابه ، واختار بعضهم أن يكتب
على ظهرها لا على حاشيتها ، والمختار عند الصيمري وغيره أن حاشيتها أولى من ظهرها
، قال الصيمري وغيره : والأمر في ذلك قريب .
الحادية
عشرة : إذا ظهر للمفتي أن الجواب خلاف غرض المستفتي وأنه لا يرضى بكتابته في
ورقته فليقتصر على مشافهته بالجواب ، وليحذر أن يميل في فتواه مع المستفتي أو
خصمه ، ووجوه الميل كثيرة لا تخفى ، منها أن يكتب في جوابه ما هو له ويترك ما
عليه ، وليس له أن يبدأ في سائل الدعوى والبينات بوجوه المخالص منها .
وإذا
سأله أحدهم وقال : أي شيء تندفع دعوى كذا وكذا ؟ أو بينة كذا ؟ لم يجبه كي لا
يتوصل بذلك إلى إبطال حق ، وله أن يسأله عن حاله فيما ادعى عليه ، فإذا شرحه
عرفه بما فيه من دافع وغير دافع .
قال
الصيمري : وينبغي للمفتي إذا رأى للسائل طريقا يرشده إليه ينبهه عليه ، يعني ما
لم يضر غيره ضررا بغير حق ، قال : كمن حلف ينفق على زوجته شهرا ، يقول :
يعطيها من صداقها أو قرضا أو بيعا يبريها ، وكما حكي أن رجلا قال لأبي حنيفة
-رحمه الله- : حلفت أني أطأ امرأتي في نهار رمضان ولا أكفر ولا أعصي ، فقال
: سافر بها .
الثانية
عشرة : قال الصيمري إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتي لعامي بما فيه تغليظ وهو
مما لا يعتقد ظاهره ، وله فيه تأويل ، جاز ذلك زجرا له ، كما روي عن ابن عباس
رضي الله عنهما أنه سئل عن توبة قاتل فقال : (لا توبة له) وسأله آخر فقال :
(له توبة) ثم قال : "أما الأول فرأيت في عينه إرادة القتل فمنعته ، وأما
الثاني فجاء مستكينا قد ضل فلم أقنطه " .
قال
الصيمري : وكذا إن سأله رجل فقال : إن قتلت عبدي علي قصاص؟ فواسع أن يقول : إن
قتلت عبدك قتلناك ، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم :
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]الترمذي الديات (1414) ، النسائي القسامة (4736) ، أبو
داود الديات (4515) ، ابن ماجه الديات (2663) ، أحمد (5/19) ، الدارمي الديات
(2358). من قتل عبده قتلناه
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] ، ولأن القتل له معان
: ولو سئل عن سب الصحابي هل يوجب القتل ؟ فواسع أن يقول : عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال :
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] من سب أصحابي فاقتلوه
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] ، فيفعل كل هذا;
زجرا للعامة ، ومن قل دينه ومروءته .
الثالثة
عشرة : يجب على المفتي عند اجتماع الرقاع بحضرته أن يقدم الأسبق فالأسبق ،
كما يفعله القاضي في الخصوم ، وهذا فيما يجب فيه الإفتاء ، فإن تساووا أو جهل
السابق قدم بالقرعة .
والصحيح
أنه يجوز تقديم المرأة والمسافر الذي شد رحله ، وفي تأخيره ضرر بتخلفه عن رفقته
ونحو ذلك على من سبقهما ، إلا إذا كثر المسافرون والنساء ، بحيث يلحق غيرهم
بتقديمهم ضرر كثير فيعود بالتقديم بالسبق أو القرعة . ثم لا يقدم أحدا إلا في
فتيا واحدة .
الرابعة
عشرة : قال الصيمري وأبو عمرو : إذا سئل عن ميراث فليست العادة أن يشترط في
الورثة عدم الرق والكفر والقتل ، وغيرها من موانع الميراث ، بل المطلق محمول
على ذلك بخلاف ما إذا أطلق الإخوة والأخوات والأعمام وبنيهم ، فلا بد أن يقول في
الجواب : من أب وأم ، أو من أب ، أو من أم ، وإذا سئل عن مسألة عول
كالمنبرية ، وهي زوجة وأبوان وبنتان فلا يقل : للزوجة الثمن ، ولا التسع;
لأنه لم يطلقه أحد من السلف ، بل يقول : لها الثمن عائلا ، وهي ثلاثة أسهم من
سبعة وعشرين ، أو لها ثلاثة أسهم من سبعة وعشرين ، أو يقول : ما قاله أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه : صار ثمنها تسعا .
وإذا
كان في المذكورين في رقعة الاستفتاء من لا يرث أفصح بسقوطه فقال : وسقط فلان ،
وإن كان سقوطه في حال دون حال قال : وسقط فلان في هذه الصورة أو نحو ذلك ; لئلا
يتوهم أنه لا يرث بحال .
وإذا
سئل عن إخوة وأخوات ، أو بنين وبنات ، فلا ينبغي أن يقول : للذكر مثل حظ
الأنثيين ، فإن ذلك قد يشكل على العامي ، بل يقول : يقتسمون التركة على كذا
وكذا سهما ، لكل ذكر كذا وكذا سهما ، ولكل أنثى كذا وكذا سهما .
قال
الصيمري : قال الشيخ : ونحن نجد في تعمد العدول عنه حزازة في النفس ، لكونه
لفظ القرآن العزيز ، وأنه قلما يخفى معناه على أحد .
وينبغي
أن يكون في جواب مسائل المناسخات شديد التحرز والتحفظ ، وليقل فيها لفلان كذا
وكذا ميراثه من أبيه ، ثم من أخيه .
قال
الصيمري : وكان بعضهم يختار أن يقول : لفلان كذا وكذا سهما ، ميراثه عن أبيه
كذا ، وعن أمه كذا ، قال : وكل هذا قريب .
قال
الصيمري وغيره : وحسن أن يقول : تقسم التركة بعد إخراج ما يجب تقديمه من دين أو
وصية إن كانا .
الخامسة
عشرة : إذا رأى المفتي رقعة الاستفتاء وفيها خط غيره ، ممن هو أهل للفتوى ،
وخطه فيها موافق لما عنده ، قال الخطيب وغيره : كتب تحت خطه : (هذا جواب صحيح
، وبه أقول) . أو كتب : (جوابي مثل هذا) . وإن شاء ذكر الحكم بعبارة ألخص
من عبارة الذي كتب .
وأما
إذا رأى فيها خط من ليس أهلا للفتوى ، فقال الصيمري : لا يفتي معه; لأن ذلك
تقريرا منه لمنكر ، بل يضرب على ذلك بأمر صاحب الرقعة ، ولو لم يستأذنه في هذا
القدر جاز ، لكن ليس له احتباس الرقعة إلا بإذن صاحبها .
قال
: وله انتهار السائل وزجره ، وتعريفه قبح ما أتاه ، وأنه كان واجبا عليه
البحث عن أهل للفتوى ، وطلب من هو أهل لذلك .
وإن
رأى فيها اسم من لا يعرفه سأل عنه ، فإن لم يعرفه فواسع أن يمتنع من الفتوى معه ،
خوفا مما قلناه .
قال
: وكان بعضهم في مثل هذا يكتب على ظهرها .
قال
: والأولى في هذا الموضع أن يشار على صاحبها بإبدالها ، فإن أبى ذلك أجابه
شفاها .
قال
أبو عمرو : وإذا خاف فتنة من الضرب على فتيا العادم للأهلية ، لم تكن خطأ ،
عدل إلى الامتناع من الفتيا معه ، فإن غلبت فتاويه لتغلبه في منصبها بجاه أو
تلبيس أو غير ذلك ، بحيث صار امتناع الأهل من فتيا معه ضارا بالمستفتين ، فليفت
معه ، فإن ذلك أهون الضررين ، وليتلطف مع ذلك في إظهار قصوره لمن يجهله .
أما
إذا وجد فتيا من هو أهل وهي خطأ مطلقا بمخالفتها القاطع ، أو خطأ على مذهب من
يفتي ذلك خطئ على مذهبه قطعا فلا يجوز له الامتناع من الإفتاء ، تاركا للتنبيه في
خطئها إذا لم يكفه ذلك غيره ، بل عليه الضرب عليها عند تيسره ، أو إبدال وتقطيع
الرقعة بإذن صاحبها ، أو نحو ذلك وما يقوم مقامه وكتب صواب جوابه عند ذلك
الخطأ .
ثم
إن كان المخطئ أهلا للفتوى فحسن أن تعاد إليه بإذن صاحبها ، أما إذا وجد فيها فتيا
أهل للفتوى ، وهي على خلاف ما يراه هو ، غير أنه لا يقطع بخطئها ، فليقتصر
على كتب جواب نفسه ، لا يتعرض لفتيا غيره بتخطئة ولا اعتراض .
قال
صاحب الحاوي : لا يسوغ إذا استفتي أن يتعرض لجواب غيره برد ولا تخطئة ، ويجيب
بما عنده موافقة أو مخالفة .
السادسة
عشرة : إذا لم يفهم المفتي السؤال أصلا ولم يحضر صاحب الواقعة فقال الصيمري
يكتب : (يزاد في الشرح ليجيب عنه) ، أو (لم أفهم ما فيها فأجيب) .
قال
: وقال بعضهم : لا يكتب شيئا أصلا .
قال
: رأيت بعضهم كتب في هذا : يحضر السائل لنخاطبه شفاها .
وقال
الخطيب : ينبغي له إذا لم يفهم الجواب أن يرشد المستفتي إلى مفت آخر إن كان ،
وإلا فليمسك حتى يعلم الجواب .
قال
الصيمري : وإذا كان في رقعة استفتاء مسائل فهم بعضها دون بعض ، أو فهمها كلها
ولم يرد الجواب في بعضها ، أو احتاج في بعضها إلى تأمل أو مطالعة ، أجاب عما أراد
وسكت عن الباقي ، وقال : (لنا في الباقي نظر أو تأمل أو زيادة نظر) .
السابعة
عشرة : ليس بمنكر أن يذكر المفتي في فتواه الحجة إذا كانت نصا واضحا مختصرا .
قال
الصيمري : لا يذكر الحجة إن أفتى عاميا ، ويذكرها إن أفتى فقيها ، كمن يسأل
عن النكاح بلا ولي فحسن أن يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]الترمذي النكاح (1101) ، أبو داود النكاح (2085) ، ابن ماجه النكاح
(1881) ، أحمد (4/418) ، الدارمي النكاح (2182). لا نكاح إلا بولي
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] ، أو عن رجعة المطلقة
بعد الدخول فيقول : له رجعتها قال الله تعالى :
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] وبعولتهن أحق بردهن
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] ) .
قال
: ولم تجر العادة أن يذكر في فتواه طريق الاجتهاد ، ووجه القياس والاستدلال ،
إلا أن تتعلق الفتوى بقضاء قاض فيومئ فيها إلى طريق الاجتهاد ، ويلوح بالنكتة ،
وكذا إذا أفتى غيره فيها بغلط فيفعل ذلك لينبه على ما ذهب إليه ، ولو كان فيما
يفتي به غموض فحسن أن يلوح بحجته .
وقال
صاحب الحاوي : لا يذكر حجة ليفرق بين الفتيا والتصنيف .
قال
: ولو ساغ التجاوز إلى قليل لساغ إلى كثير ، ولصار المفتي مدرسا .
والتفصيل
الذي ذكرناه أولى من إطلاق صاحب الحاوي المنع .
وقد
يحتاج المفتي في بعض الوقائع إلى أن يشدد ويبالغ فيقول : (وهذا إجماع المسلمين) ،
أو : (لا أعلم في هذا خلافا) ، أو : (فمن خالف هذا فقد خالف الواجب وعدل عن
الصواب) ، أو : (فقد أثم وفسق) ، أو : (وعلى ولي الأمر أن يأخذ بهذا ولا
يهمل الأمر) ، وما أشبه هذه الألفاظ على حسب ما تقتضيه المصلحة وتوجيه الحال .
الثامنة
عشرة : قال الشيخ أبو عمرو -رحمه الله- : ليس له إذا استفتي في شيء من
المسائل الكلامية أن يفتي بالتفصيل ، بل يمنع مستفتيه وسائر العامة من الخوض في
ذلك أو في شيء منه وإن قل ، ويأمرهم بأن يقتصروا فيها على الإيمان جملة من غير
تفصيل ، ويقولوا فيها وفي كل ما ورد من آيات الصفات وأخبارها المتشابهة : إن
الثابت فيها في نفس الأمر ما هو اللائق فيها بجلال الله -تبارك وتعالى- ،
وكماله وتقديسه المطلق ، فيقول معتقدنا فيها ، وليس علينا تفصيله وتعيينه ،
وليس البحث عنه من شأننا ، بل نكل علم تفصيله إلى الله -تبارك وتعالى- ونصرف
عن الخوض فيه قلوبنا وألسنتنا ، فهذا ونحوه هو الصواب من أئمة الفتوى في ذلك ،
وهو سبيل سلف الأمة ، وأئمة المذاهب المعتبرة ، وأكابر العلماء والصالحين وهو
أصون وأسلم للعامة وأشباههم .
ومن
كان منهم اعتقد اعتقادا باطلا تفصيلا ، ففي هذا صرف له عن ذلك الاعتقاد الباطل
بما هو أهون وأيسر وأسلم ، وإذا عزر ولي الأمر من حاد منهم عن هذه الطريقة ،
فقد تأسى بعمر بن الخطاب رضي الله عنه في تعزير صبيح -بفتح الصاد المهملة- الذي
كان يسأل عن المتشابهات على ذلك .
قال
: والمتكلمون من أصحابنا معترفون بصحة هذه الطريقة ، وبأنها أسلم لمن سلمت له ،
وكان الغزالي منهم في آخر أمره شديد المبالغة في الدعاء إليها والبرهنة عليها ،
وذكر شيخه إمام الحرمين في كتابه الغياثي أن الإمام يحرص ما أمكنه على جمع الخلق
على سلوك سبيل السلف في ذلك .
واستفتي
الغزالي في كلام الله - تبارك وتعالى - فكان من جوابه : وأما الخوض في أن
كلامه تعالى حرف وصوت أو ليس كذلك فهو بدعة ، وكل من يدعو العوام إلى الخوض في
هذا فليس من أئمة الدين ، وإنما هو من المضلين ، ومثاله من يدعو الصبيان الذين
لا يحسنون السباحة إلى خوض البحر ، ومن يدعو الزمن المقعد إلى السفر في البراري
من غير مركوب .
وفي
رسالة له : الصواب للخلق كلهم إلا الشاذ النادر ، الذي لا تسمح الأعصار إلا
بواحد منهم أو اثنين ، سلوك مسلك السلف في الإيمان المرسل ، والتصديق المجمل ،
بكل ما أنـزله الله تعالى ، وأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير بحث
وتفتيش ، والاشتغال بالتقوى ففيه شغل شاغل .
وقال
الصيمري في كتابه أدب المفتي والمستفتي : إن مما أجمع عليه أهل الفتوى أن من كان
موسوما بالفتوى في الفقه لم ينبغ -وفي نسخة : لم يجز- له أن يضع خطه بفتوى في
مسألة من علم الكلام .
قال
: وكان بعضهم لا يستتم قراءة مثل هذه الرقعة .
قال
: وكره بعضهم أن يكتب : ليس هذا من علمنا ، أو ما جلسنا لهذا ، والسؤال عن
غير هذا أولى ، بل لا يتعرض لشيء من ذلك .
وحكى
الإمام الحافظ الفقيه أبو عمرو بن عبد البر الامتناع من الكلام في كل ذلك عن
الفقهاء والعلماء قديما وحديثا من أهل الحديث والفتوى ، قال : وإنما خالف ذلك
أهل البدع .
قال
الشيخ : فإن كانت المسألة مما يؤمن في تفصيل جوابها من ضرر الخوض المذكور جاز
الجواب تفصيلا ، وذلك بأن يكون جوابها مختصرا مفهوما ، ليس لها أطراف يتجاذبها
المتنازعون ، والسؤال عنه صادر عن مسترشد خاص منقاد ، أو من عامة قليلة التنازع
والمماراة ، والمفتي ممن ينقادون لفتواه ونحو هذا ، وعلى هذا ونحوه يحمل ما جاء
عن بعض السلف من بغض الفتوى في بعض المسائل الكلامية ، وذلك منهم قليل نادر والله
أعلم .
التاسعة
عشرة : قال الصيمري والخطيب -رحمهما الله- : وإذا سأل فقيه عن مسألة من
تفسير القرآن العزيز فإذا كانت تتعلق بالأحكام أجاب عنها وكتب خطه بذلك ، كمن سأل
عن الصلاة الوسطى ، والقرء ، ومن بيده عقدة النكاح ، وإن كانت ليست من مسائل
الأحكام ، كالسؤال : عن الرقيم والنقير والقطمير والغسلين ، رده إلى أهله ،
ووكله إلى من نصب نفسه له من أهل التفسير ، ولو أجابه شفاها لم يستقبح ، هذا
كلام الصيمري والخطيب .
ولو
قيل : إنه يحسن كتابته للفقيه العارف به ، لكان حسنا ، وأي فرق بينه وبين
مسائل الأحكام ؟ والله أعلم .