رأيت نظرات الدهشة والاستغراب في
عيون كثير من الناس لما رأوا سقوط الظالم، فلم يكونوا يتوقعون أبدا إسقاطه،
ولم يكونوا يظنون أن ثباتهم لبضع أيام قليلات على عزمهم سيكون سببا قويا
في زحزحة الجبال الراسخة . لقد استقلوا قدرتهم الحقيقية لما رأوا ضعف
عدتهم، واستهانوا بما يملكون من صمود النفوس وعزائم القلوب على الإنجاز
والنجاح والتأثير . لكن الواقع قد علم العالم جميعا، أن العزم والإرادة
والتصميم قادرون على إخراج قوة من الجسد الضعيف لايتوقعها أحد ولا ينتظرها
أحد حتى صاحب الجسد ذاته، فما بالك لو كان ذلك العزم موصولا بالله القادر
العظيم ومباركا من العزيز الحكيم ! إن العزيمة عمل قلبي بالأساس، وإذا فقد
القلب عزمه خارت قوى الجسد مهما كان قويا، وقد تكون قوة الأعضاء متواضعة
ضعيفة ولكن تقويها عزيمة القلب وتصلبها إرادته ويدعمها طموحه . إن القلوب
لهي صاحبة القول النهائي في المواقف كلها، ولابد من همه القلب قبل همة
الأعضاء ليمر المرء بنجاح عبر المآزق والأزمات . والمرء قد يبلغ الدرجات
العلى بهمه قلبه، حتى قبل أن تصل إليها جوارحه وأعضاء جسده، يقول صلى الله
عليه وسلم في حديثه : «من هم بحسنه فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنه»
البخاري . وقال فيمن تجهز للقاء عدوه، ثم أدركه الموت : «قد وقع أجره على
قدر نيته» النسائي. وقال في حق الذين تخلفوا عن صحبته في تأمين حدود الدولة
الإسلامية - في غزوة تبوك - من الذين حبستهم الأعذار: «إن بالمدينة
لرجالاً، ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، حبسهم العذر»
متفق عليه. بل إن الأمر في رؤية الإسلام يفوق ذلك، إنه يسري حتى في العبادة
بين الإنسان وربه فيقول صلى الله عليه وسلم في حديثه «مامن امرئ تكون له
صلاة بليل، فغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه»
أبو داود. بل قد يتفوق المؤمن الفقير بهمته العالية على الغني كثير المال
كما في قوله صلى الله عليه وسلم : «سبق درهم مائة ألف درهم، قالوا : يا
رسول الله ! كيف يسبق درهم مائة ألف ؟ ، قال: رجل كان له درهمان، فأخذ
أحدهما، فتصدق به، وآخر له مال كثير، فأخذ من عرْضها مائة ألف» أخرجه أحمد .
فلكأن الطريق إنما يقطع بقوة العزيمة وعلو الهمة وتصحيح النية ودفق
الطموح، وأن عملاً قليلاً قد يصل صاحبه بعزمه ونيته إلى أضعاف مضاعفة مما
يقطعه قليل العزيمة ضعيف النية .. إن المنهج الإسلامي ليعلم الناس أن
عزيمتهم الصادقة تذهب مشقة الطريق، كما يعلمهم أن ضعف العزائم من ضعف حياة
القلوب، وأن القلوب كلما كانت أتم حياة، كانت أكثر همة وعزيمة، وكما أن
عزيمة القلب هي دليل على حياته، فإنها في ذات الوقت سبب إلى حصول حياة أكمل
وأطيب، فإن الحياة الطيبة إنما تنال بالهمة العالية، والمحبة الصادقة،
والإرادة الخالصة، فعلى قدر ذلك تكون الحياة الطيبة، وأخس الناس حياة أخسهم
همة، وأضعفهم محبة وطموحا