| تاريخ المساهمة 24.11.11 13:50 | |
إن أهل الله العارفين، والسالكين الذين جاهدوا في الله فاهتدوا وصاروا من المحسنين قد أجمعوا على حقيقة ثابتة وقاعدة راسخة في علم التزكية وسلوك صراط الله المستقيم وهي أنه ما أفلح من أفلح إلا بصحبة المفلحين، وما صدق من صدق إلا بالاتصال بالصادقين وما ثبت من ثبت إلا باتباع الثابتين وما وصل من وصل إلا بمرافقة الواصلين، وشاهدُنا العدل في ذلك قول العزيز الحكيم {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}. وشاهدنا من السنة المطهرة قوله صلى الله عليه وسلم " إنما يأكل الذئب من الشاة القاصية".
إن هذه القاعدة الجليلة ثابتة في العقول وبالتجربة لمن أراد أن يفلح في أي تخصص، إذا لا سبيل لإتقان أي علم إلا بمجالسة أهله والأخذ عنهم. ولا مناص لطالب التخلق بالأخلاق السنية والتحقق بالمقامات العلية والاطلاع على الحقائق الأصلية من الجلوس بين يدي مرشد كامل تعرّف فعَرَف وسلك فملك وتعلّم فعلِم وتحلّم فحلم، وأخذ الطريق إلى الله عن أهله واغترف الحب الإلهي من ينبوع أصله.
ولا أرى الذي يستثني علم التصوف والسلوك من هذه القاعد الجليلة إلا أحد ثلاثة:
الأول جاهل قد شوش قلبَه الجهلةُ وبعثر أفكاره قساةُ القلوب فأفهموه أنه ربما وصل إلى حقيقة النفس الراضية المرضية عن طريق اجتهاده الشخصي وانفراده بالتعرف على مداخل الشيطان وتلبيسات النفس الأمارة بالسوء.. وهيهات. أو أنه بمجرد قيامه برسوم الشريعة وإتقانه لأحكام طهارة بدنية وصلاة جسمية وتلاوة لسانية فإنه في غنى عن علوم الطريقة من تزكية قلبية وطهارة معنوية وتلاوة اتباعية روحية. ولكن هيهات، إذ والله لو عبد اللهَ رجلٌ سبعين سنة يقوم فلا ينام ويصوم فلا يفطر لما بلغ في الحال أو العلم عشر معشار من يصحب أهل الله بصدق أياما معدودات. وليس كلامنا عن الاستثناءات هنا إذ لربما علم الله في عابد أهلية لمقام ما فبلغه إياه لصدقة واجتهاده أو ببركة كثرة صلاته على النبي صلى الله عليه وسلم ولكن هذا أندر من النادر والنادر لا حكم له، ولا ينبغي التعويل عليه. فعلى اللبيب الفطن العلم بأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم نواب وورثة، فالذي ورث الفقه وأحكامه لا غنى عنه، والذي ورث تلاوة القرآن لا غنى عنه، والذي ورث العلم بالحديث لا غنى عنه، وكذلك الذي ورث علم التزكية لا غنى عنه، قال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} ولقد وردت هذه الآية في سورة الجمعة وكأن في ذلك إشارة إلى أن ما يجمع القلب على الله هو التزكية. أو إشارة إلى الجمع بين "تلاوة القرآن" و"التزكية" والفقه المستنبط من "الكتاب" والمستنبط من "الحكمة" المراد بها الحديث النبوي الشريف. وكأن في ذلك شاهدا على قول الإمام مالك: "ومن جمع بينهما فقد تحقق". ولنكون أقرب إلى الواقع وضرب الأمثال، نقول: ربما اشتكى أحد من عدم خشوعه بين يدي ربه في الصلاة فمن ترى سوف يسأل عن الحل لمثل هذه المشكلة؟ إن هو سأل فقيها عالما بالأحكام الظاهرية فحسب، فإنه غالبا ما سيجيبه بأن عليه أن يحسن الوضوء وأن يصلى الصلاة لوقتها أو أن يتتبع كلام الله المتلو أثناء الصلاة. ولا بأس بهذه النصيحة إذ من قُدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله. ولربما منح الله ذلك السائل خشوعا بهذه النصيحة في صلاة أو صلاتين أو ليوم أو يومين ثم يذهب هذا الحال أدراجه ويعود السائل إلى سهوه. بيد أنه لو سأل صوفيا فسيخبره أن عدم خشوعه هذا عرض لمرض؟ فيضع الصوفي يده على المرض؟ ويخبره أن التركيز يجب أن يكون على الشفاء من المرض نفسه حتى يزول العرض تبعا. وغالبا ما يكون انعدام الخشوع في الصلاة لحب الدنيا أو نقص التوكل. فحب الدنيا يسهل على الشيطان تذكيرنا بمتاعها وشهواتها أثناء الصلاة كي لا نعقل من صلاتنا شيئا. ونقص التوكل يسهل على الشيطان تشويش قلوبنا بتدبير الدنيا ومشاغلها التي لا تنتهي حتى نخوض أثناء صلاتنا بخواطرنا في الرزق والمال والعيال والمدير والموظفين وغير ذلك. ولا يكتفي الصوفي بذلك بل يعطي السائل الحل وهو إخراج الدنيا من القلب والسعي لبلوغ مقام التوكل حتى يصير خشوعه مقاما دائما لا حالا زائلا فيكون من المفلحين الذين هم في صلاتهم خاشعون. ويزيد على ذلك بأن يبين له كيف يكون هذا الحل وما هي الخطوات التي يجب أن يفعلها. ويزيد على ذلك بأن يأخذ بيده في مشي هذه الخطوات إن كان هذا السائل صادقا في إرادة الخشوع ومن ثم الفلاح. فيقول له: الآن اتبعني وجالسني واصحبني حتى تتأثر بحالي وحال إخوتك الذاكرين كي يخرج حب الدنيا من قلبك ولن يخرج حتى تملأه بضده وهو حب الله تعالى، والآن اسمع قولي حتى تبلغ مقام التوكل ولن تبلغ ذلك المقام حتى يتغلغل الذكر في لحمك ودمك فتنقدح شعلة الحب الإلهي في قلبك فتحرق همومك وترضي عن محبوبك في كل ما يفعل وإذا رضيت عنه تمام الرضا في الحاضر وفي الماضي فإنك سترضى عنه في المستقبل وذلك الرضا بما سيفعل بك محبوبك في المستقبل هو أول قدم لك في مقام التوكل. هذا مثال واحد، ولو أردنا الإسهاب في إيراد الأمثلة لاحتجنا إلى مجلدات، إلا أن اللبيب بالإشارة يفهم. فالسلوك لا يؤخذ من الكتب وليس معادلات تنسخ ليطبقها المسلم بمفرده بل إن لكل حالة خصوصية وربما يكون العرض بسبب علة أخرى كما قد يكون ألم البطن بسبب التسمم أو ربما بسبب التقرح أو الأميبا أو غير ذلك.. ولا يشخص المرض إلا الطبيب الحاذق والدواء يختلف من حالة لأخرى.
أما الثاني فمستكبر يرى أن لا أحد فوقه في مراتب الإيمان وتأنف نفسه من اتباع الربانيين وأهل الإحسان. يقول في نفسه: "ما لي ولهؤلاء؟ وماذا يزيدون علي، فهم يصلون كما أصلي ويصومون كما أصوم بل ربما قمت الليل وبعضهم لا يقوم وربما علمت من علوم الظاهر ما لا يعلمون". وهذا هو ديدن ذلك المسكين لا يزن الأمور إلا بمظاهرها ولا يعلم من الدين سوى عدّ أعماله الصالحة وحسابها جمعا وضربا، جاهلا أن أكثر الأعمال قبولا عند الله هي الأعمال التي يغيب عن شهودها ولا ينظر إلى وجودها ويراها لا شيء في حضرة من برز منه الوجود وخلق النفوس وأعمالها ومن إذا عاملها بعدله أهلكها. قال ابن عطاء الله في الحكم: "الأعمال صور قائمة وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها" وقال: "ما قل عمل برز من قلب زاهد ولا كثر عمل برز من قلب راغب." وأين بالله الزهد ممن لا يعترف أصلا بشيء اسمه علم التصوف ولا يرى أن نفسه بحاجة إلى شيخ يزكيها، فذلك ما عرف الزهد وما شم رائحته.
وأما الثالث فعجول متسرع يريد الوصول دون الصبر على أوامر المرشد وصحبة الذاكرين، ناسيا قوله تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا}... يقول في نفسه: "هؤلاء على خير ولكن صحبتهم ومتابعتهم ستضيع علي وقتي الذي يمكن أن أستثمره فيما هو أنفع وأسمى ولا جرم أنني إن ثابرت على ما توصلت إليه باجتهادي من منهج في الوصول إلى رضا الله فإنني سأكسب الوقت الثمين الذي يضيعه هؤلاء ولن أكون بحاجة إلى صحبة الشيخ وانتظار إذنه في كل مهمة". ولست أقول في مثل هذا سوى ما قاله الشاعر:
إذا لم يكن من الله عون للفتى*** فأول ما يقضي عليه اجتهاده
ولم يعلم المسكين أن الذكر أفضل الأعمال بإطلاق لقول سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى. قال: ذكر الله تعالى". فالذكر أفضل الأعمال لأنه يفضي إلى أفضل الإعمال فهو الذي يضمن لك الإخلاص في ما تعمل لنفسك وأمتك وهو الذي يضمن لك السداد والتوفيق في ذلك. وذلك أن الذكر واتباع الشيخ المرشد يجوهر القلب ويجلوه مما يشوشه من الذنوب والخواطر فيورثك الفهم عن الله لتعرف أوجه الحق في كل شيء ويهديك لما أختُلف فيه من الحق. ولذلك ترى أن هذا الصنف الثالث يكثر منه الدعاة والقادة الذين استعجلوا الثمرات وقفزوا عن مرحلة تحقيق سر الإخلاص وطهارة القلب من كل الأمراض.. فجهلوا معنى الإخلاص وخفيت عليهم آفات قلوبهم فكان ضررهم على الأمة أكبر من نفعهم.
إن السلوك وصحبة مشايخ التربية لا يتعارضان مع أي تخصص ولا يقفان حائلين دون أي اتجاه شرعي آخر. ولكن المسألة تتعلق بالأولويات وما هو المقدار الكافي من السلوك لكي ينطلق المؤمن بالعمل والدعوة والتعليم على بصيرة ومع تحقق سر الإخلاص في ما يعمل. بعض الناس يرى أن صلاة الجماعة وتلاوة القرآن تكفي وبعضهم يزيد على ذلك بمطالعة كتب الرقائق وبعضهم يزيد بمطالعة كتب السلوك والأخلاق كالإحياء والرسالة والحكم العطائية. وبعضهم يرى أن لا بأس ببعض الأوراد النافلة وآخرون يرون أن لا بأس بحضور بعض مجالس الذكر بين الفينة والأخرى أو المذاكرة مع شيخ صوفي بضع مرات في العمر حول الإيمان وآفات القلوب. ولكن هل هكذا تحسب الأولويات في حياة المؤمن؟! لا أظن ذلك.
البعض يرى أن الله أقامه في الاشتغال بعلم الحديث والانكباب عليه واستغراق كل الوقت فيه، وكذلك في التفسير أو علم الكلام أو الدعوة أو السعي على العيال أو غير ذلك من العلوم والأعمال النافعة في الآخرة والدنيا. ولكن من الذي قال له أن الله حقا قد أقامه في ذلك دون التزكية (أي أراد له ذلك) وأنها ليست نفسه التي أقامته في ذلك؟! من الذي أطلعه على أن الاستغراق التام في هذا التخصصات والأعمال وإهمال علم التزكية أمر مراد له من قبل الرحمن؟ إن كان يعلم أن تزكية نفسه من أمراضها هو سبيل الفلاح (قد أفلح من زكاها) ثم يتجاوزها وكأنها من فضول الأشياء فليسأل نفسه بصدق: هل أريد أن أكون من المخلصين المفلحين أم أن مرادي من حياتي لا يتعدى تغذية النفس الأمارة بالرياسة والتميز والجاه. وإن كان لا يعلم أن تزكية نفسه من أمراضها هو سبيل الفلاح فذلك راض عن نفسه وهذا لعمرك المريض الذي يجهل مرضه. والفقير يرى أن السلوك لا بد وأن يستغرق العمر كله كما علمنا مولانا العارف بالله الشيخ حسني الشريف رضي الله عنه، وخاصة في هذا الزمان، وهذا يعني السير فيه مع سائر التخصصات في آن واحد على أن تكون الأولوية دائما للسلوك إذا ما حصل إي تعارض.
وأذكر إخوتي بقول العارفين: "من لا شيخ له فشيخه الشيطان" ولندع من ينكر هذه المقولة بجهله ينكرها وليسير في طريقه. وإنما نقول له: ستعلم عندما ينجلي الغبار، أفرس تحتك أم حمار.
_________________ [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ و الخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ نَاصِرِ الحَقِّ بِالحَقِّ و الهَادِي إِلَى صِرَاطِكَ المُسْتَقِيمِ و عَلَى آلِهِ حَقَّ قَدْرِهِ و مِقْدَارِهِ العَظِيمِ
|
|
| |
| تاريخ المساهمة 24.11.11 16:56 | |
تسلم الايادى موضوع رائع تقبلى تحياتى
|
|
| تاريخ المساهمة 24.12.11 1:23 | |
جزاك الله خيرا لان الناكريين للصوفيه بمجتمعنا دائما يقولون لى ادى الصوفيه عبدة القبور فى حين لا ينظرون للقدوة منهم ولو حتى من يظهروا فى الاعلام أمثال على جمعه اوالحبيب على الجفرى
ويتهمون الصوفيه بعبده القبور والمقابر افتراء
|
|
| تاريخ المساهمة 22.01.12 3:22 | |
فعلا موضوع رائع تسلم ايديكى
|
|
| تاريخ المساهمة 05.02.12 17:18 | |
|
|