عُرفت دمشق عبر تاريخها الحضاري بأنها موئل لأنواع عديدة من الفنون الشرقية، بل إن كثيراً من الفنون والأعمال اليدوية الإبداعية تعرف بالدمشقية للتأكيد على أصالتها وعراقتها الفنية، وفي هذا المجال نعدّ الخط العربي، والزخرفة الإسلامية والفسيفساء، والموزاييك والحفر في الخشب.
§ الأرابيسك، فن إسلامي متميز:
تجلت مهارة الفنان الدمشقي بابتكار الأشكال والزخارف والنقوش في أعماله، واستخدمها ببراعة فائقة في العمارة والتزيينات الداخلية، خاصة في البيوت الدمشقية، التي زيّنها بالرسوم النباتية، والأشكال الهندسية، ولوحات الخط العربي، بأشكال مبتكرة متميزة بالذوق والرقة، إن فن (الأرابيسك) هو واحد من الفنون الإسلامية، ذات الطابع المستقل، الذي يشكل منظومة رائعة يتألق فيها الحس، ويثير في النفس تساؤلات عديدة، لما يتمتع به من خصوصية وشموخ يمنحانه حماية وتفرداً وحصانة.
توليفة متكررة من الوحدات الخشبية تتراكب وتتداخل بحرفية متقنة تحاكي مهارة صانعها، وتلفت أنظار العاشقين إلى هذه الظاهرة الفريدة، وتثير الرغبة في نفوسهم للبحث عن الأسباب والدوافع التي أدت إليها.
§ فن معبّر عن الأصالة والجمال:
(فن الأرابيسك) جمال يدعو الإنسان إلى التأمل، ويقوده إلى التفكير في تركيبته، ويشعره بالقيمة الحياتية لعناصر هذا الفن المستمدة من الطبيعة.. عناصر بمثابة حروف وكلمات الفنون التشكيلية الإسلامية.. استخرجها الصانعون وتفننوا في صياغة معالمها ونقوشها على الجدران والنوافذ والأبواب والمساجد، ليعبّر هذا الفن عن روح الأصالة، هذه الأصالة التي تدفع محبيه ومريديه للبحث عن أجمل نقوشه في أقدم الأحياء الشعبية التي حملت طابعه الشرقي والإسلامي.
تعود أصول فن الأرابيسك إلى أكثر من ألف عام، فهو – في الأساس – صناعة معمارية امتازت بها حضارتنا العربية، يحكي قصة الزخرفة الإسلامية والنقوش اليدوية.
وتشير كتب التاريخ إلى أن حرفيي وفناني الأرابيسك العرب في مصر وبلاد الشام، نُقلوا إلى اسطنبول في القرن التاسع عشر لتزيين قصور السلاطين العثمانيين، حتى أن بعضهم لم يسمح له بالعودة إلى بلاده بعدما أنجز عمله، وقد شهدت الحقبة السلجوقية في المنطقة العربية، قبيل دخول العثمانيين إلى بلداننا واحتلالها، ازدهاراً كبيراً لفنون الأرابيسك، تطور على أثره هذا الفن، وتوسع، واستخدمت فيه مواد عديدة وفنون إسلامية متنوعة.
زينت أعمال الأرابيسك القصور والبيوت والمساجد وامتازت بدقة في الصناعة، وببراعة في التنفيذ، واتسمت بجماليات تتواءم مع واقع التزيين في تلك الأزمنة، وخلت أعمال الأرابيسك من الرسوم الحية للكائنات البشرية والحيوانات، وغلبت الأشكال ذات الطابع الزخرفي والخطوط والحفر ورسوم النباتات عليها، وتخصصت في إنجازها مدن وأحياء بكاملها، شكلت ما يشبه ورش عمل فنية أو مدارس تعليمية لهذا الفن، فيما راح هذا الفن يختفي منذ أكثر من نصف قرن.
§ الطبيعة الحضارية للأمكنة:
تبرز في فن الأرابيسك روعة الفنون الإسلامية بأشكالها المتنوعة، وانسجامها، وتوافقها مع واقع البيئة الحضارية العربية والإسلامية آنذاك، وهي – أيضاً – تعبّر، في أنماطها المتنوعة، عن الطبيعة الثقافية والحضارية للأمكنة التي أنتجت فيها، وتؤشر إلى الطبقات الاجتماعية التي كانت تستخدم هذا الفن في تزيين أثاثها وبيوتها وقصورها.
ولم يقتصر فن الأرابيسك على الأثاث بطرزه الإسلامية مختلفة الأشكال والاستخدامات، بل اتصل بتكوينات المعمار الخاص بالمساجد والقصور، فقد أنشأ فنان الأرابيسك جدراناً كاملة في بعض القصور، بالإضافة إلى إنجازه تحفاً مدهشة للأعمدة وتيجانها، ولمنابر المساجد والمشربيات والنوافذ والأبواب، وأحياناً كان الأرابيسك يستخدم في تزيين بعض الآنية، إلا أن أكثر مظاهر استخدام الأرابيسك توّجت في الأثاث، وتضفي لمسات هذا الفن، الذي تستخدم فيه ألوان عديدة من الفنون الأخرى المساندة له، سحراً خاصاً على أي مكان توجد فيه، ففيها تظهر جماليات الزخرفة والخطوط، وبراعة خطاطيها والرسوم بتزييناتها الرشيقة والفطرية، وكل ذلك ينتجه فن الأرابيسك، الذي يتشكل أساساً من فنون مساندة كالحفر والزخرفة والخط والرسم والتعشيق والنقش والتطعيم، وهذه الفنون، في مجموعها، تشكّل فن الأرابيسك الذي تستخدم فيه مواد متنوعة أيضاً أساسها الخشب والصدف والمعادن كالنحاس والذهب والأصباغ.
§ المعلم (أبو سليمان) وعبقرية الإبداع:
... وقد برز في هذا المجال الإبداعي الراقي (الأرابيسك) كوكبة من مهرة الفنانين الدمشقيين، الذين أتقنوا التزيين الملون على الخشب، وفيهم أسرة الحموي والتوام وملص وأبناء أبي نجيب الدهان الشامي، وتميز بشكل خاص المعلم البارع (أبو سليمان الخياط) الذي مارس عمله مفصحاً عن موهبة وعبقرية في مجال الإبداع الهندسي الزخرفي، وتمكن من تأسيس مدرسة فريدة، تخرج فيها حرفيون مهرة تابعوا الرسالة، وكان بينهم أبناؤه الذين توارثوا المهنة جيلاً بعد جيل.
§ ولد أبو سليمان، محمد علي الخياط في دمشق عام 1880، وابتدأ عمله في الحفر والتزيين على الخشب زمن العثمانيين وبالتحديد عام 1912، وفي عام 1920 ذهب إلى لبنان كي يشرف ويعمل بنفسه على إصلاح وتزيين قصر بيت الدين، وفي عام 1924 كلّف بالعمل في قصر العظم التاريخي بدمشق، وهناك قام بترميمه وبالحفر على الطريقة الفاطمية والعباسية.
وفي عام 1937 أنيطت بأبي سليمان أعمال الزخرفة العربية داخل وخارج مبنى مؤسسة مياه عين الفيجة، فقام بإنشاء قاعة شامية أثرية كبيرة في الطابق الثاني من المؤسسة، عندما نقل قاعة قديمة من دار أسرة (سقا أميني) يعود تاريخها إلى عام 1796م إلى هذه المؤسسة وأعاد ترميمها وزخرفتها فجاءت آية في الجمال والروعة.
كما قام في عام 1947 بتزيين قاعة البرلمان السوري، واستمر العمل فيها حتى عام 1955 فجاءت تحفة رائعة تشهد بعظمة هذا الفنان وقوة إبداعه.
ويقول عنه مدير الفنون التشكيلية في وزارة الثقافة والإرشاد القومي د. عفيف البهنسي عام 1959: (منذ بداية هذا القرن، كان هناك من يعمل بصمت وهدوء.. لبعث فن الحفر والزخرفة العربي، هذا الفن الذي امتاز بين الفنون التشكيلية العالمية لما فيه من جمال مجرد في التكوين وبراعة عبقرية في التنفيذ.. وأول رائد لهذا الفن.. محمد علي الخياط المشهور باسم (أبو سليمان).. وله آثار فنية قيمة أخذها عن أصول معروفة، وقد أتقن إخراجها وأجاد في الإفادة من جميع طرق الحفر التي مرت بالتاريخ العربي وقد قام أبو سليمان بالتأليف فيما بينها وجمعها في أثر واحد ما أعطى إنتاجه طابعاً جديداً مستمداً من طبيعة المرحلة التاريخية التي تمر فيها الأمة العربية وهي تتجه لإعادة بناء حضارة جديدة ترتكز إلى ذروات حياتها في تاريخها المجيد).
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
§ فن راق بخبرات فنية سورية:
فن أبي سليمان الخياط له جذور وأصول في التاريخ العربي، فقد ابتعد العرب دائماً عن رسم الأشخاص واقتصروا على عناصر زخرفية ابتكروها نقلاً عن النبات والأشكال الهندسية والخط بمختلف أنواعه، وقد تفننوا في هذا المضمار تفنناً بالغاً وتوصلوا في تنويع وتنفيذ هذه الزخارف إلى حد الإعجاز، وقد طبقوا هذه الزخارف على صناعات عديدة تخصصوا بها وأتقنوها وانتشرت في العالم تحمل أسماءهم.
لقد كانت جميع المواد المستعملة في جميع الأعمال والإنشاءات الحجرية والخشبية والمعدنية سورية المصدر والخبرات التي درست وعملت في جميع مراجل إنشاء دار البرلمان كانت خبرات سورية، وكان لأبي سليمان الخياط، الدور الكبير والعمل المضني في الزخرفة الداخلية الدمشقية للقاعة الرئيسية لاجتماعات أعضاء البرلمان فقامت وُرَش أبي سليمان خلال الفترة من عام 1947 إلى عام 1955 بتزيين القاعة وفرشها بالأثاث التقليدي الذي طوره أبو سليمان في صناعة الخشبيات المرصعة بالفضة والمنزلة بالصدف والمحفورة على الطريقة القيصرية وتابع أولاد أبي سليمان الاهتمام بهذه القاعة على مر الأيام في صيانتها وترميمها، إلى عهد قريب...
§ الخياط.. فكر متألق بالأناقة والجمال:
لقد قام أبو سليمان بتزيين حيطان وسقوف القاعة بلوحات من الفن العربي الإسلامي، الذي تأثر بفنون أخرى، فخرج في صورته الأبهى والأبدع، فكان مزيجاً راقياً من الفن الفارسي، والهندي، والمصري القديم، متميزاً بالتجريد والعمق.. إنه فن رمزي، يرمز إلى المعاني العظيمة في هذا الكون.. ومما زاد من إبداع أبي سليمان وأعطى قاعة البرلمان البهاء والروعة، قبة البرلمان والثريا المتدلية من منتصف هذه القبة، التي ابتدعها بفكره الخلاق وأنامله البارعة، رغم أنه لم يكن متعلماً أو دارساً للفن، إنما ورثه عن آبائه وأجداده.
أما الخيط العربي الذي ابتدعه أبو سليمان لتزيين البرلمان فقد شغله بالحديد والنحاس والخشب على أشكال هندسية مضفورة، ويعود هذا الخيط إلى أيام بني أمية حيث وجد على أبواب مسجد بني أمية الداخلية..
وأشكال هذه الخيوط المسماة (الخيط العربي)، هندسية، منها المخمس والمسدس والمسبع.. وأشكال العنكبوت وعش النحل العكازي... وهي نوعان، مفرغ وغير مفرغ، ويبدو الأخير كأن أعمال الحفر فيه ملصوقة على أرضية من الخشب ويستعمل للبراويز والتزيينات الحائطية أو طقوم الصالون وجميع قطع الموبيليا.
والمفرغ (المخرم) هو الذي استعمله أبو سليمان للثريات في قاعة المجلس النيابي السوري وقصر لجنة مياه عين الفيجة وبعض البيوت الدمشقية العريقة كبيتي توفيق الصحناوي ولطفي الحفار.
§ شواهد الجمال باقية على الأيام:
وترك الفنان بصمته الفريدة في قصر العظم بدمشق، وقصر بيت الدين في لبنان، وعدد من المباني التراثية في أكثر من مكان، والملاحظ اليوم أن معظم الورشات التي تزاول حرفة الزخرفة على الخشب منتشرة في مدينة دمشق، بالذات في معظم البيوت الدمشقية حتى أنه لا يكاد يخلو بيت دمشقي قديم من وجود قاعات شرقية، وتجدها في قصر العظم ومكتب عنبر وبيت السباعي في دمشق القديمة.
ورغم أننا في هذه الفترة نلمس قلة اهتمام بهذا الفن ولم يعد كما كان عليه الحال في الماضي فإننا نرى إقبالاً شديداً من الدول العربية، والأجنبية على اقتناء مثل هذه القاعات الشرقية، ونجد بيوتاً ومعالم تكاد لا تخلو من هذا الفن، نفذها الفنان الدمشقي ببراعة كقصر الأمير بندر بن سلطان في جدة، وقصر الشيخ محمد النعيمي في عجمان، وقصر الأمير بشير الشهابي في لبنان، وقصر الأمير محمد علي في مصر، وقصر يلدز في استانبول، وقصر المستشرق هندرسون في الاسكندرية، إضافة إلى كثير من الفنادق الضخمة والفلل، حتى في بعض المعارض الخارجية أصبحت القاعة الدمشقية رمزاً للفن السوري فتجد في معرض هنوفر في ألمانيا قاعة دمشقية استقطبت الكثير من الزوار الذي فتنوا بهذا الفن الراقي.
اليوم يطوّف الزوار من أرجاء العالم في معالم دمشق التاريخية ويتوقفون عند أعمال (أبي سليمان الخياط) المتألقة رغم مرور السنين، ويرفعون له ولأبناء جيله تحيات الاعتزاز والإكبار، عرفاناً بالجميل، ووفاء للعاملين المجدين في ميدان الفن الخالد على مدار الأيام.