احباب رسول الله صلى الله عليه وسلم
أرجو
احبابى - من يقرأ منهم مقالي - هذا ان يحملوه على أفضل الوجوه؛ وان يحسنوا
الظن فيما كتبت –خالصا لله – ولا يتأولوه؛ وليس هذا وعظا او نصحا موجه منى
إليهم؛ فان كان ثمه احد يستحق النصح فأنى أولى بذلك منهم؛ فان حديثى اليوم
إليكم هو حديث تجاوز الخصوص الى العموم؛ أقول ذلك – سادتى- حتى يكون توجهى
لديكم احبتى مفهوم؛ أقول قولى هذا مستعينا بالله الملك القيوم؛ وعلى الله
تيسير امرى وتفريج الهموم..... وبعد
ان علوم التصوف علوم ذات
مذاق ؛ تدرك بالذوق ولا تقرأ بالإحداق؛ وهى علوم ارق من علوم النقل؛ وارقى
من علوم الشرع؛ لأنها علوم الأصفياء حين صفاء؛ وخوطر الانقياء فى نقاء من
نقاء؛ كما يستقطر الماء المقطر من صفى الماء.
ومن هنا ترى آخى
-رحمك الله واياى وكل المسلمين- ان المقصود من العباده هو الجوهر وليس
المظهر وان الوقوف عند ظاهر الشريعه ليس هو مقصود العباده بل المقصود ابعد
من ذلك وهى القربى الى الله وهو ما يطلق عليه الصوفيه (الوصول)
ومن
هنا يجب ان نفهم ايضا ان التصوف متمم للتشرع وكلاهما كالبنيان الذى يكون
أساسه وهيكله الشريعه التى عمادها الكتاب والسنه وبنائه وفرشه الحقيقه التى
هى مراد التصوف. فلا يقف بناء بلا أساس وأعمده ولا يسكن ويستوطن بيت بغير
فرش وأمتعه.
واخبرنا مشايخنا قديما وحديثا ان الحقيقه لا تنفك عن
الشريعه قيد أنمله، فكل حقيقة ردتها الشريعة فهي زندقة، وكل طريق لا يقود
الى الحقيقه فهو طريق الفسقه؛ واعلموا احبابى - وانا معكم -أن الشريعة حق
العبودية، وان لا عبوديه الا بشريعه؛ وان الحقيقة هي ثمره العبودية، ومن
صار من أهل الحقيقة تقيد بحقوق العبودية ويزيد؛ وهذا وربى هو الصوفي
الرشيد.
ومن مظاهر الادعاء فى المجتمع الصوفى – على مر العصور-
رجال تكلموا بلسان أهل الحقيقه وادعوا إنهم يتلقونها من الملأ الأعلى؛ وان
ما يلقونه فيض من الفيض الاسنى؛ وهم لا يعلمون من ظاهر الشريعه الا النذر
اليسبر؛ ولا يقتدون بسنه الهادى البشير؛ وهذا وربى ليس شيم العارفين؛ ولا
صفه الواصلين؛ ولا منازل السالكين المحققين. فلا يخدعنا منهم زخارف
الاقوال؛ ولا تنطلى علينا ما يدعونه من الاحوال. ولو كانوا من العارفين
لصانوا أحوالهم عن كلام الناسكبن؛ ولضنوا بعلومهم عن الغافلين من عوام
المسلمين.
ولقد كان لهذه العلوم رجالها الذين عرفوا مقدارها وصانوا
فى الجوانح أسرارها؛ ولم يبوحوا بها إلا لمن هم أهلها؛ وما وردت عنهم إلا
رغما منهم.
اسمع الى قول ابن الفارض رحمه الله؛ وهو سلطان العاشقين وأمام المحققين حيث يقول:
وعنوان شانى ما أبثك بعضه -------- وما تحته إظهاره فوق قدرتى
وامسك عجزا عن أمور كثيره ----- بنطقى لن تحصى ولو قلت قلت
انظروا
رحمكم الله الى قوله (لو قلت قلت) كنايه عن ان النقص فى البوح والعصمه فى
الكتمان..... ويقول أيضا تقدس سره معلنا إخفاؤه علومه بين جوانحه:
ولما أبت إظهاره لجوانحي ............ بديهه فكرى صنته عن رويتي
وبالغت فى كتمانه فنسيته............... وأنسيت كتمى ما إليه أسرت
وقال رضى الله عنه ناصحا من هم على دربه من العارفين بربهم:
وما عنه لم تفصح فانك أهله ====== وأنت غريب عنه ان قلت فاصمت
وفى الصمت سمت عنده جاه مسكه ==== غدا عبده من ظنه خير مسكت
قال
القشيري رحمه الله: من علامات المعرفة كتمان الأسرار؛ فمن رأيته مجيبا عن
كل ما يسـأل؛ و معبرا عن كل ما شهد؛ و ذاكرا لكل ما علم؛ فاستدل بذلك على
وجود جهلــه. أما وجه جهله فكونه مجيبا عن كل ما سئل، فلما يقتضيه حاله من
الإحاطة بالعلوم و قد قال تعالى: ( و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا)
الإسراء85.......... فأي جهل ممن يعارض كلام الله.
و لما فيه أيضا
من التكلف والتصنع، و قد قال تعالى: ( قل لا أسألكم عليه أجرا و ما أنا من
المتكلفين)، و قال عليه الصلاة و السلام: " أنا و أتقياء أمتي براء من
التكلف"، و لا يخلو صاحب التكلف من التصنع و التزين و هو من شأن الجهل
بالله، إذ لو كان عالما به لاكتفى بعلمه و عرف قدره، وأخفى سره ان يناله من
ليس أهله.
و يضيف القشبرى رحمه الله:
و قد تكون المسألة التي
يتكلم بها اكبر من عقل المستمع لها ولا تليق به لأنه لا يفهمها، و لا يطيق
معرفتها، فتوقعه في الحيرة أو الإنكار، و قد قال سبط النبي عليه السلام: لا
تؤتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها.
و في ذلك يقول الشاعر
سأكتم علمي عن ذي الجهل طاقتي==== ولا أنثر الدر النفيس على البهـم
فـإن قـدر الله الكريـم بلطفـه========= ولاقيت أهلا للعلـوم و للحكـم
بذلت علومي و استفدت علومهـم======= وإلا فمخـزون لـدي و مكتتـم
فمن منح الجهال علمـا أضاعـه====== ومن منع المستوجبين فقـد ظلـم
و
قال علي كرم الله وجهه: حدث الناس بقدر ما يفهمون، أتريدون أن يكذب الله و
رسوله، و قد كان الجنيد رضي الله عنه يسأله الرجلان، فيجيب هذا بخلاف ما
يجيب هذا، فقال: الجواب على قدر السائل.
قال صلى الله عليه و سلم: أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم
و
قال رجل لبعض العلماء و قد سأله فلم يجبه: أما علمت أن رسول الله صلى الله
عليه و سلم قال:" من كتم علما نافعا ألجم يوم القيامة بلجام من النار"
فقال العالم: اترك اللجام و اذهب، فإن جاء للعلم من يستحقه و كتمته
فليلجمني به.
ويستكمل الأمام القشيرى رحمه الله قائلا:
و
أما وجه جهله في كونه معبرا عن كل ما شهد من الكرامات، و ما وصل إليه من
المقامات، و ما ذاقه من الأنوار و الأسرار، فلأن هذه الأمور أذواق باطنية و
أسرار ربانية لا يفهمها إلا أربابها، فذكرها لمن لا يفهمها و لا يذوقها
جهل بقدرها، و أيضا هي أمانات و سر من أسرار الملك، و سر الملك لا يحل
إفشاؤه، فمن أفشاه كان خائنا و استحق الطرد و العقوبة، و لا يصلح أن يكون
أمينا بعد ذلك، فكتم الأسرار من شأن الأخيار، و هتك الأسرار من شأن
الأشرار، و قد قالوا
قلوب الأحرار قبور الأسرار، و قال الشاعــر
لا يكتم السر إلا كل ذي ثقة ======= فالسر عند خيار الناس مكتوم
و
في إفشائها قلة عملها و نفعها في الباطن، ففائدة هذه الأحوال و الواردات
الإلهية هي محو الحسي و إظهار المعنوي، أو محو الشك و تقوية اليقين، فإذا
أفشاها ضعف أعمالها و قلت نتيجتها، و الخير كله في الكتمان، و في الحديث: "
استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان" أو كما قال عليه السلام، و فيه أيضا
نقص الإخلاص و إدخال الرياء و هو سبب الهلاك و العياذ بالله. و أما وجه
جهله فلأنه جهل قدرها و استخف شأنها، فلو كانت عنده رفيعة عزيزة ما أفشاها
لغيره، إذ صاحب الكنز لا يبوح به و إلا سلبه من ساعته.
و انظر شيخ شيوخنا المجذوب رضي الله عنه يقول:
احفر لسـرك و دكـو******* في الأرض سبعين قامة
و خلي الخلايق يشكـو*********إلـى يـوم القيـامـة
و
إذا كان الله تعالى يقول: (و لا تؤتوا السفهاء أموالكم) فكيف بالعلم الذي
هو لألئ مكنونه، قال صلى الله عليه و سلم: "إن من العلم كهيئة المكنون لا
يعرفه إلا العلماء بالله فإذا أظهروه أنكره أهل الغربة بالله.
و
قال أبو هريرة رضي الله عنه: حفظت من رسول الله صلى الله عليه و سلم جرابين
من العلم، أما أحدهما فبثته في الناس، و أما الآخر فلو بثته لقطع مني هذا
البلعوم
و لله در مولانا زين العابدين ابن سيدنا علي بن الحسين بن علي كرم الله وجهه حيث قال
يا رب جوهر علم لو أبوح بـه******* لقيل لي أنت ممن يعبد الوثـنا
و لاستحل رجال مسلمون دمي******* يرون أقبح مـا يأتونـه حسنـا
إني لأكتم من علمي جواهـره****** كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتنا
و
قال الروذابادي رحمه الله: علمنا هذا إشارة، فإذا صار عبارة خفي، و قال
الإمام الغزالي: قد تضر الحقائق بأقوام كما يتضرر الجعل بالورد و المسك.
يقول الامام الصوفى الشهير السهروردى رحمه الله:
"وفرقة
أخرى (من مدعى التصوف) ادعت علم المعرفة ومشاهدة الحق ومجاوزة المقامات
والأحوال والملازمة في عين الشهود والوصول إلى القرب، ولا يعرف هذه الأمور
إلا بالأسماء والألفاظ لأنه تلقف من ألفاظ الطامات كلمات فهو يرددها ويظن
أن ذلك أعلى من علم الأولين والآخرين، فهو ينظر إلى الفقهاء والمفسرين
والمحدثين وأصناف العلماء بعين الازدراء( بعدم سماع النصح منهم) فضلاً عن
العوام، حتى إن الفلاح ليترك فلاحته والحائك يترك حياكته ويلازمهم أياماً
معدودة ويتلقف منهم تلك الكلمات المزيفة فيرددها كأنه يتكلم عن الوحي ويخبر
عن سر الأسرار، ويستحقر بذلك جميع العباد والعلماء، فيقول في العباد إنهم
أجراء متعبون، ويقول في العلماء إنهم بالحديث عن الله محجوبون؛ ويدعي لنفسه
أنه الواصل إلى الحق وأنه من المقربـين، وهو عند الله من الفجار
المنافقين، وعند أرباب القلوب من الحمقى الجاهلين لم يحكم قط علماً ولم
يهذب خلقاً ولم يرتب عملاً ولم يراقب قلباً سوى اتباع الهوى وتلقف الهذيان
وحفظه." اهـ
و يذكر الشيخ إبن القيّم رحمه الله تعالى في كتابه (إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان):
"ومن
كيد إبليس اللعين ما ألقاه إلى بعض جُهال المتصوفة ( يقصد المدعين منهم)
من الشطح والطامات، وأبرزه لهم فى قالب الكشف من الخيالات، فأوقعهم فى
أنواع الأباطيل والترهات، وفتح لهم أبواب الدعاوى المهائرات، وأوحى إليهم:
أن وراء العلم طريقا إن سلكوه أفضى بهم إلى الكشف العيان، وأغناهم عن
التقييد بالسنة والقرآن، فحسن لهم رياضة النفوس وتهذيبها، وتصفية الأخلاق
والتجافى عما عليه أهل الدنيا، وأهل الرياسة والفقهاء، وأرباب العلوم
والعمل على تفريغ القلب وخلوه من كل شىء، حتى ينتقش فيه الحق بلا واسطة
تعلم، فلما خلا من صورة العلم الذى جاء به الرسول نقش فيه الشيطان بحسب ما
هو مستعد له من أنواع الباطل، وخيله للنفس حتى جعله كالمشاهد كشفا وعيانا،
فإذا أنكره عليهم ورثة الرسل قالوا: لكم العلم الظاهر، ولنا الكشف الباطن،
ولكم ظاهر الشريعة، وعندنا باطن الحقيقة، ولكم القشور ولنا اللباب، فلما
تمكن هذا من قلوبهم سلخها من الكتاب والسنة والآثار كما ينسلخ الليل عن
النهار، ثم أحالهم فى سلوكهم على تلك الخيالات، وأوهمهم أنها عن الآيات
البينات، وأنها من قبل الله سبحانه إلهامات وتعريفات فلا تعرض على السنة
والقرآن، ولا تعامل إلا بالقبول والإذعان. فلغير الله لا له سبحانه ما
يفتحه عليهم الشيطان من الخيالات والشطحات، وأنواع الهذيان. وكلما ازدادوا
بعدا وإعراضا عن القرآن وما جاء به الرسول كان هذا الفتح على قلوبهم أعظم. "
اهـ
وللموضوع بقيه ..... ان شاء الله.
مراجع البحث
1- الامام السهروردى : عوارف المعارف (باب من انتسب الى الصوفيه وليس منهم)
2- الامام ابن القيم: مدارج السالكين بين منازل اياك نعبد واياك نستعسن
3- الامام الغزالى: احياء علوم الدين
4- ابن الجوزى: تلبيس ابليس
5- ديوان ابن الفارض قدس الله سره
6- الامام القشيرى: الرسالة القشيرية
7- شبكه النت العالميه