| تاريخ المساهمة 29.05.11 15:20 | |
فصل
في آداب المستفتي وصفته وأحكامه
فيه مسائل :
إحداها : في صفة المستفتي : كل من لم يبلغ درجة المفتي فهو فيما يسأل عنه من الأحكام الشرعية مستفت مقلد من يفتيه . والمختار في التقليد أنه قبول قول من يجوز عليه الإصرار على الخطأ بغير حجة على عين ما قبل قوله فيه ، ويجب عليه الاستفتاء إذا نـزلت به حادثة ، يجب عليه علم حكمها ، فإن لم يجد ببلده من يستفتيه وجب عليه الرحيل إلى من يفتيه ، وإن بعدت داره ، وقد رحل خلائق من السلف في المسألة الواحدة الليالي والأيام . الثانية : يجب عليه قطعا البحث الذي يعرف به أهلية من يستفتيه للإفتاء إذا لم يكن عارفا بأهليته . فلا يجوز له استفتاء من انتسب إلى العلم ، وانتصب للتدريس والإقراء وغير ذلك من مناصب العلماء ، بمجرد انتسابه وانتصابه لذلك . ويجوز استفتاء من استفاض كونه أهلا للفتوى . وقال بعض أصحابنا المتأخرين : إنما يعتمد قوله : أنا أهل للفتوى لا شهرته بذلك ، ولا يكتفي بالاستفاضة ولا بالتواتر; لأن الاستفاضة والشهرة بين العامة لا يوثق بها ، وقد يكون أصلها التلبيس ، وأما التواتر فلا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلوم محسوس . والصحيح هو الأول ; لأن إقدامه عليها إخبار منه بأهليته ، فإن الصورة مفروضة فيمن وثق بديانته ، ويجوز استفتاء من أخبر المشهور المذكور بأهليته . قال الشيخ أبو إسحاق المصنف -رحمه الله- وغيره : يقبل في أهليته خبر العدل الواحد . قال أبو عمرو : وينبغي أن نشترط في المخبر أن يكون عنده من العلم والبصر ما يميز به الملتبس من غيره ، ولا يعتمد في ذلك على خبر آحاد العامة ، لكثرة ما يتطرق إليهم من التلبيس في ذلك . وإذا اجتمع اثنان فأكثر ممن يجوز استفتاؤهم فهل يجب عليه الاجتهاد في أعلمهم ؟ والبحث عن الأعلم والأورع والأوثق ليقلده دون غيره فيه وجهان : أحدهما : لا يجب ، بل له استفتاء من شاء منهم ; لأن الجميع أهل ، وقد أسقطنا الاجتهاد عن العامي ، وهذا الوجه هو الصحيح عند أصحابنا العراقيين ، قالوا : وهو قول أكثر أصحابنا . والثاني : يجب ذلك; لأنه يمكنه هذا القدر من الاجتهاد بالبحث والسؤال ، وشواهد الأحوال . وهذا الوجه قول أبي العباس بن سريج ، واختيار القفال المروزي ، وهو الصحيح عند القاضي حسين ، والأول أظهر ، وهو الظاهر من حال الأولين .
قال أبو عمرو -رحمه الله- ، لكن متى اطلع على الأوثق ، فالأظهر أنه يلزمه تقليده ، كما يجب تقديم أرجح الدليلين ، وأوثق الروايتين ، فعلى هذا يلزمه تقليد الأورع من العالمين ، والأعلم من الورعين ، فإن كان أحدهما أعلم ، والآخر أورع ، قلد الأعلم على الأصح . وفي جواز تقليد الميت وجهان : الصحيح : جوازه; لأن المذاهب لا تموت بموت أصحابها ، ولهذا يعتد بها بعدهم في الإجماع والخلاف ، ولأن موت الشاهد قبل الحكم لا يمنع الحكم بشهادته بخلاف فسقه . والثاني : لا يجوز لفوات أهليته كالفاسق ، وهذا ضعيف لا سيما في هذه الأعصار . الثالثة : هل يجوز للعامي أن يتخير ويقلد أي مذهب شاء قال الشيخ : ينظر : إن كان منتسبا إلى مذهب بنيناه على وجهين حكاهما القاضي حسين في أن العامي هل له مذهب أم لا ؟ أحدهما لا مذهب له; لأن المذهب لعارف الأدلة فعلى هذا له أن يستفتي من شاء من حنفي وشافعي وغيرهما . والثاني وهو الأصح عند القفال له مذهب فلا يجوز له مخالفته . وقد ذكرنا في المفتي المنتسب ما يجوز له أن يخالف إمامه فيه ، وإن لم يكن منتسبا بني على وجهين حكاهما ابن برهان في أن العامي : هل يلزمه أن يتمذهب بمذهب معين ؟ يأخذ برخصه وعزائمه ؟ أحدهما لا يلزمه كما لم يلزمه في العصر الأول أن يخص بتقليده عالما بعينه ، فعلى هذا هل له أن يستفتي من شاء ؟ أم يجب عليه البحث عن أشد المذاهب وأصحها أصلا ليقلد أهله ؟ فيه وجهان مذكوران كالوجهين السابقين في البحث عن الأعلم والأوثق من المفتين . والثاني : يلزمه وبه قطع أبو الحسن إلكيا ، وهو جار في كل من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من الفقهاء وأصحاب سائر العلوم . ووجهه أنه لو جاز اتباع أي مذهب شاء لأفضى إلى أن يلتقط رخص المذاهب متبعا هواه ، ويتخير بين التحليل والتحريم والوجوب والجواز ، وذلك يؤدي إلى انحلال ربقة التكليف بخلاف العصر الأول ، فإنه لم تكن المذاهب الوافية بأحكام الحوادث مهذبة وعرفت ، فعلى هذا يلزمه أن يجتهد في اختيار مذهب يقلده على التعيين ، ونحن نمهد له طريقا يسلكه في اجتهاده سهلا ، فنقول : أولا ليس له أن يتبع في ذلك مجرد التشهي ، والميل إلى ما وجد عليه آباءه ، وليس له التمذهب بمذهب أحد من أئمة الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم من الأولين ، وإن كانوا أعلم وأعلى درجة ممن بعدهم; لأنهم لم يتفرغوا لتدوين العلم وضبط أصوله وفروعه ، فليس لأحد منهم مذهب مهذب محرر مقرر ، وإنما قام بذلك من جاء بعدهم من الأئمة الناحلين لمذاهب الصحابة والتابعين ، القائمين بتمهيد أحكام الوقائع قبل وقوعها ، الناهضين بإيضاح أصولها وفروعها ، كمالك وأبي حنيفة وغيرهما . ولما كان الشافعي قد تأخر عن هؤلاء الأئمة في العصر ، ونظر في مذاهبهم نحو نظرهم في مذاهب من قبلهم ، فسبرها وخبرها وانتقدها . واختار أرجحها ، ووجد من قبله قد كفاه مؤنة التصوير والتأصيل ، فتفرغ للاختيار والترجيح ، والتكميل والتنقيح ، مع معرفته ، وبراعته في العلوم . وترجحه في ذلك على من سبقه ، ثم لم يوجد بعده من بلغ محله في ذلك . كان مذهبه أولى المذاهب بالاتباع والتقليد ، وهذا مع ما فيه من الإنصاف ، والسلامة من القدح في أحد الأئمة جلي واضح ، إذا تأمله العامي قاده إلى اختيار مذهب الشافعي ، والتمذهب به [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] . الرابعة : إذا اختلف عليه فتوى مفتيين ففيه خمسة أوجه للأصحاب : أحدها : يأخذ بأغلظهما ، والثاني : بأخفهما ، والثالث : يجتهد في الأولى فيأخذ بفتوى الأعلم الأورع كما سبق إيضاحه واختاره السمعاني الكبير ونص الشافعي رضي الله عنه على مثله في القبلة ، والرابع : يسأل مفتيا آخر فيأخذ بفتوى من وافقه ، والخامس : يتخير فيأخذ بقول أيهما شاء ، وهذا هو الأصح عند الشيخ أبي إسحاق الشيرازي المصنف ، وعند الخطيب البغدادي ، ونقله المحاملي في أول المجموع عن أكثر أصحابنا واختاره صاحب الشامل فيما إذا تساوى المفتيان في نفسه . وقال الشيخ أبو عمرو : المختار أن عليه أن يبحث عن الأرجح فيعمل به فإنه حكم التعارض فيبحث عن الأوثق من المفتين فيعمل بفتواه ، وإن لم يترجح عنده أحدهما استفتى آخر ، وعمل بفتوى من وافقه ، فإن تعذر ذلك وكان اختلافهما في التحريم والإباحة ، وقبل العمل ، اختار التحريم ، فإنه أحوط ، وإن تساويا من كل وجه خيرناه بينهما ، وإن أبينا التخيير في غيره ; لأنه ضرورة وفي صورة نادرة .
قال الشيخ : ثم إنما نخاطب بما ذكرناه المفتين ، وأما العامي الذي وقع له فحكمه أن يسأل عن ذلك ذينك المفتيين أو مفتيا آخر وقد أرشدنا المفتي إلى ما يجيبه به .
وهذا الذي اختاره الشيخ ليس بقوي بل الأظهر أحد الأوجه الثلاثة ، وهي : الثالث والرابع ، والخامس ، والظاهر أن الخامس أظهرها; لأنه ليس من أهل الاجتهاد ، وإنما فرضه أن يقلد عالما أهلا لذلك ، وقد فعل ذلك بأخذه بقول من شاء منهما والفرق بينه وبين ما نص عليه في القبلة أن أمارتها حسية فإدراك صوابها أقرب ، فيظهر التفاوت بين المجتهدين فيها ، والفتاوى أمارتها معنوية فلا يظهر كبير تفاوت بين المجتهدين والله أعلم . الخامسة : قال الخطيب البغدادي : إذا لم يكن في الموضع الذي هو فيه إلا مفت واحد فأفتاه لزمه فتواه . وقال أبو المظفر السمعاني -رحمه الله- : إذا سمع المستفتي جواب المفتي لم يلزمه العمل به إلا بالتزامه ، قال : ويجوز أن يقال إنه يلزمه إذا أخذ في العمل به . وقيل : يلزمه إذا وقع في نفسه صحته ، قال السمعاني : وهذا أولى الأوجه . قال الشيخ أبو عمرو : لم أجد هذا لغيره ، وقد حكى هو بعد ذلك عن بعض الأصوليين أنه إذا أفتاه بما هو مختلف فيه خيره بين أن يقبل منه أو من غيره ، ثم اختار هو أنه يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين ويلزمه الأخذ بفتيا من اختاره باجتهاده .
قال الشيخ : والذي تقتضيه القواعد أن نفصل فنقول : إذا أفتاه المفتي نظر فإن لم يوجد مفت آخر لزمه الأخذ بفتياه ، ولا يتوقف ذلك على التزامه لا بالأخذ في العمل به ولا بغيره ، ولا يتوقف أيضا على سكون نفسه إلى صحته . وإن وجد مفت آخر فإن استبان أن الذي أفتاه هو الأعلم الأوثق لزمه ما أفتاه به ، بناء على الأصح في تعينه كما سبق ، وإن لم يستبن ذلك لم يلزمه ما أفتاه بمجرد إفتائه إذ يجوز له استفتاء غيره وتقليده ، ولا يعلم اتفاقهما في الفتوى ، فإن وجد الاتفاق أو حكم به عليه حاكم لزمه حينئذ . السادسة : إذا استفتي فأفتى ثم حدثت تلك الواقعة له مرة أخرى ، فهل يلزمه تجديد السؤال ؟ فيه وجهان : أحدهما : يلزمه; لاحتمال تغير رأي المفتي ، والثاني : لا يلزمه وهو الأصح; لأنه قد عرف الحكم الأول ، والأصل استمرار المفتى عليه . وخصص صاحب الشامل الخلاف بما إذا قلد حيا وقطع فيما إذا كان ذلك خبرا عن ميت ، بأنه لا يلزمه ، والصحيح أنه لا يختص ، فإن المفتي على مذهب الميت قد يتغير جوابه على مذهبه . السابعة : أن يستفتي بنفسه ، وله أن يبعث ثقة يعتمد خبره ليستفتي له ، وله الاعتماد على خط المفتي إذا أخبره من يثق بقوله أنه خطه ، أو كان يعرف خطه ولم يتشكك في كون ذلك الجواب بخطه . الثامنة : ينبغي للمستفتي أن يتأدب مع المفتي ويبجله في خطابه وجوابه ونحو ذلك .
ولا يومئ بيده في وجهه ، ولا يقل له ما تحفظ في كذا ؟ أو ما مذهب إمامك أو الشافعي في كذا ؟ ولا يقل إذا أجابه : هكذا قلت أنا ، أو كذا وقع لي ، ولا يقل : أفتاني فلان أو غيرك بكذا ، ولا يقل : إن كان جوابك موافقا لمن كتب فاكتب وإلا فلا تكتب .
ولا يسأله وهو قائم أو مستوفز أو على حالة ضجر أو هم أو غير ذلك مما يشغل القلب .
وينبغي أن يبدأ بالأسن الأعلم من المفتين ، وبالأولى فالأولى إن أراد جمع الأجوبة في رقعة ، فإن أراد إفراد الأجوبة في رقاع بدأ بمن شاء ، وتكون رقعة الاستفتاء واسعة ، ليتمكن المفتي من استيفاء الجواب واضحا ، لا مختصرا مضرا بالمستفتي .
ولا يدع الدعاء في رقعة لمن يستفتيه . قال الصيمري : فإن اقتصر على فتوى واحد قال : ما تقول رحمك الله ؟ أو رضي الله عنك أو وفقك الله ، وسددك ورضي عن والديك ؟ ، ولا يحسن أن يقول : رحمنا الله وإياك . وإن أراد جواب جماعة قال : ما تقولون رضي الله عنكم ؟ أو ما تقول الفقهاء سددهم الله تعالى ؟ ويدفع الرقعة إلى المفتي منشورة ، ويأخذها منشورة فلا يحوجه إلى نشرها ولا إلى طيها . التاسعة : ينبغي أن يكون كاتب الرقعة ممن يحسن السؤال ، ويضعه على الغرض مع إبانة الخط واللفظ وصيانتهما عما يتعرض للتصحيف . قال الصيمري : يحرص أن يكون كاتبها من أهل العلم ، وكان بعض الفقهاء ممن له رياسة لا يفتي إلا في رقعة كتبها رجل بعينه من أهل العلم ببلده . وينبغي للعامي أن لا يطالب المفتي بالدليل ، ولا يقل : لم قلت ؟ فإن أحب أن تسكن نفسه لسماع الحجة طلبها في مجلس آخر ، أو في ذلك المجلس بعد قبول الفتوى مجردة . وقال السمعاني : لا يمنع من طلب الدليل ، وأنه يلزم المفتي أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعا به ، ولا يلزمه إن لم يكن مقطوعا به لافتقاره إلى اجتهاد يقصر فهم العامي عنه ، والصواب الأول . العاشرة : إذا لم يجد صاحب الواقعة مفتيا ولا أحدا ينقل له حكم واقعته لا في بلده ولا غيره قال الشيخ : هذه مسألة فترة الشريعة الأصولية [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] وحكمها حكم ما قبل ورود الشرع ، والصحيح في كل ذلك القول بانتفاء التكليف عن العبد ، وأنه لا يثبت في حقه حكم لا إيجاب ولا تحريم ولا غير ذلك ، فلا يؤاخذ إذن صاحب الواقعة بأي شيء صنعه فيها ، والله أعلم .
تم ما في شرح المهذب من كلام عن الفتوى وشروطها وبقية الكلام في هذا الباب خاص بمذهب الإمام الشافعي ، فلينظره طلاب العلم الشافعية والله تعالى الموفق لكل خير والحمد لله رب العالمين
|
|
|
| تاريخ المساهمة 29.05.11 16:11 | |
سلمت يداك اخي الغالي وبارك الله فيك علي مجهودك الرائع المتميز
|
|