الإسلام هو الدين الذي قامت الدلائل العقلية والنقلية على أنه دين
الحق المنزل من عند الله، القائم على توحيده، فهو منهج الحياة الذي ينظم علاقة
الإنسان بربه، وبأخيه الإنسان، وبالحيوان، وبالمادة، وبالكون، وبالجملة فهو منهج
يحكم تصرفات الإنسان من المهد إلى اللحد، منهج يربط كل الأنظمة والتشريعات التي
تحكم الفرد والمجتمع بما يريده الله من خلقه، ويرتب على ذلك الثواب والعقاب، ولو
تعقل الناس هذا الدين وتدبروا هذا المنهج الإلهي لكان لهم معه شأن آخر، وهو الطاعة
والاستسلام والرضا والقبول.
ولكن عندما يصطدم هذا المنهج بشهوات الناس وأهوائهم يصدون عن
مبادئه؛ بل ربما أدى بهم ذلك إلى مهاجمته وإثارة الشبهات حوله، ونشر الأكاذيب عنه
لصد الناس عنه، أو لزعزعة أصوله ومبادئه لدى معتنقيه، يفعلون ذلك بغيًا وظلمًا
وحسدًا من عند أنفسهم، ومن نظر بعين الإنصاف إلى أحكام الإسلام ومسيرة حكمه في
التاريخ، رأى أبهى صور العدل والإنصاف والسماحة واحترام آدمية الإنسان وكرامته،
ورأى أنه منهج جاء بالطهارة والزكاة، والبذل والإنفاق، والتعاون والتكافل، والتراحم
والتناصح، والمودة والإحسان، والطهر والعفاف، والسماحة والبشارة، وحارب الربا
والشح، والأثرة والفردية، والتخاصم والتناحر والتباغض والتفاضح، والظلم والبغي،
والدنس والقذارة.
وأنه المنهج الوحيد الذي سمح بقيام مجتمع عالمي تعيش فيه
الديانات الأخرى تحت سلطان الإسلام مصونة الأنفس والأموال والأعراض.
السماحة لغة:
مصدر سمح يسمح سماحة وسماحًا وسموحة، وتدلّ مادّة
(س م ح) كما يقول ابن فارس على معنى السّلاسة والسّهولة، يقال: سمح (بفتح السين)
وتسمّح وسامح، فعل شيئا فسهّل فيه، وأنشد ثعلب في هذا المعنى:
ولكن إذا ما جلّ
خطب فسامحت به النّفس يومًا كان للكره أذهبا
والمسامحة: المساهلة، وتسامحوا:
تساهلوا.
وقال ابن الأعرابيّ: سمح له بحاجته، وأسمح أي سهّل له.
وفي الأثر:
أنّ ابن عبّاس سئل عن رجل شرب لبنا محضا، أيتوضّأ؟ قال: اسمح يسمح لك.
معناه
سهّل يسهّل لك وعليك.
وقولهم: الحنيفيّة السّمحة ليس فيها ضيق ولا شدّة، ولقد
سمح بالضّم سماحة وجاد بما لديه.
السماحة اصطلاحًا:
السّماحة في الاصطلاح
تقال على وجهين:
الأوّل: ما ذكره الجرجانيّ من أنّ المراد بها: بذل ما لا يجب
تفضّلا، أو ما ذكره ابن الأثير من أنّ المقصود بها: الجود عن كرم وسخاء.
الآخر:
في معنى التّسامح مع الغير في المعاملات المختلفة، ويكون ذلك بتيسير الأمور
والملاينة فيها الّتي تتجلّى في التّيسير وعدم القهر، وسماحة المسلمين الّتي تبدو
في تعاملاتهم المختلفة سواء مع بعضهم أو مع غيرهم من أصحاب الدّيانات الأخرى.
سماحة نفس المسلم:
من طبيعة النّفس السمحة أن يكون صاحبها
هيّنًا ليّنًا، يتقبّل ما يجري به القضاء والقدر بالرّضا والتّسليم، ويحاول أن يجد
لكلّ ما يجري به ذلك حكمة مرضية، وإن كان مخالفًا لهواه، ويراقب دائما قول اللّه
تعالى:
﴿ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ
فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا
﴾ (النساء: 19)، وهو من أجل ذلك يستقبل كلّ ما يأتيه من
قبل اللّه -عزّ وجلّ- بغاية الرّضا، ويلاحظ جوانب الخير في كلّ ما تجري به
المقادير، وهو لذلك يترقّب المستقبل بتفاؤل وأمل، كما يستقبل الواقع بانشراح لما
يحبّ، وإغضاء عمّا يكره، وبذلك يسعد نفسه ويريح قلبه، وهذا من كمال العقل، لأنّ
العاقل هو الشّخص الواقعيّ، أي الّذي يسعد نفسه وقلبه بالواقع الّذي لا يملك دفعه
أو رفعه، ويعامل النّاس بالتّسامح؛ لأنّه لا يملك أن يطوّع النّاس جميعا لما يريد
لأنّهم مثله ذوي طبائع متباينة وإرادات مختلفة.
من ظواهر سماحة النفس:
لسماحة النّفس مظاهر عديدة أشار إلى
أهمّها صاحب الأخلاق الإسلامية، ومنها:
أوّلا: طلاقة الوجه واستقبال النّاس
بالبشر.
ثانيا: مبادرة النّاس بالتّحيّة والسّلام والمصافحة وحسن المحادثة؛ لأنّ
من كان سمح النّفس بادر إلى ذلك.
ثالثا: حسن المصاحبة والمعاشرة والتّغاضي عن
الهفوات، لأنّ من كان سمح النّفس كان حسن المصاحبة لإخوانه ولأهله ولأولاده ولخدمه،
ولكلّ من يخالطه أو يرعاه.
وسائل اكتساب سماحة النفس:
من الوسائل النّاجعة لاكتساب هذا
الخلق الحميد ما يلي:
1- التّأمّل في التّرغيبات الّتي رغّب اللّه بها من يتحلّى
بهذا الخلق، وتأمّل الفوائد الّتي يجنيها سمح النّفس في العاجل والآجل.
2-
التّأمّل في المحاذير الّتي يقع فيها نكد النّفس، وما يجلبه ذلك من مضارّ ومتاعب
وخسائر مادّيّة ومعنويّة.
3- الاقتناع الإيماني بسلطان القضاء والقدر، لأنّ علم
الإنسان بأنّ المقادير أمور مرسومة ولا رادّ لها، وأنّها تجري وفقا للحكمة
الإلهيّة، يجلب الطّمأنينة وثبات القلب وراحة البال، وعليه أن يعلم أنّ ما ينزل
بالنّاس ممّا يحبّون أو يكرهون إنّما هو من عند اللّه وبقضائه وقدره، أمّا الحسنات
فمن فضل اللّه عزّ وجلّ، وأمّا السّيّئات فبسبب من الإنسان، إمّا لأنّ ذنبه هو
السّبب في استحقاق العقوبة، وإمّا لأنّ تربيته وتأديبه يقتضيان إذاقته بعض ما يكره
من مصائب وآلام، أي إنّ مصلحة الإنسان نفسه هي الّتي اقتضت أن يصيبه من اللّه بعض
ما يكره من صروف الحياة.
نماذج من سماحة الإسلام والمسلمين:
قال الشّيخ محمّد الصّادق
عرجون تحت عنوان «سماحة المعاملة في تصرّفات القادة والأمراء في فتوح الشّام»:
«والنّاظر في تصرّفات قادة الفتوحات الإسلاميّة من أصحاب رسول اللّه -صلى الله
عليه وسلم- وأمرائه وولاته وتلاميذهم من التّابعين وتابعيهم، يرى أنّهم كانوا أحرص
على الرّفق والسّماحة في تنفيذ العهود والمصالحات، ممّا جعل المعاهدين والمصالحين
يتعاونون مع المسلمين في صدق وإخلاص؛ نتيجة لما رأوه من العدالة الرّحيمة في معاملة
المسلمين لهم».
وقال الشّيخ: تطبيق سماحة الإسلام من أعظم أسباب سرعة انتشاره.
وفي هذه السّياسة الحكيمة الرّحيمة أوضح إجابة عن تساؤل المتسائلين عن أسباب
السّرعة الهائلة الّتي طوى فيها الإسلام أكثر المعمور من الأرض تحت ظلّه
الظّليل.
ويتجلّى إبراز هذه المبادئ في أمور:
أوّلا: أنّ هذه المبادئ السّمحة الرّاشدة تنقض الفكرة المتعنّتة
الجاحدة الّتي يردّدها أعداء الإنسانيّة، بتصوير فتوحاته غزوًا مادّيًّا لنهب ثروات
الأمم، واغتصاب خيراتها وحرمانها من نعم اللّه عليها فيما أنعم به من مصادر الثّروة
الاقتصاديّة.
وتصوير هذه الفتوحات بأنّها إكراه للنّاس بقوّة السّلاح على
الدّخول في دين الإسلام؛ لأنّ النّظرة العابرة، بل النّاقدة الفاحصة في فتوحات
الإسلام، تردّ ذلك وتدفع في صدر زاعميه؛ لأنّ هذه الفتوحات، كما دوّنها التّاريخ
الصّادق بأقلام جهابذته من أبناء الإسلام، أو غيرهم من طلّاب الحقائق الّذين
ينشدونها في مقارّها من واقع الأحداث، مهما كلّفهم ذلك من تعب ومشقّة، أصدق شاهد
على عدالة الإسلام وسماحته.
فهذا أبو عبيدة بن الجرّاح أمين هذه الأمّة
الإسلاميّة، وعظيم فتوح المصالحات، نقرأ في مصالحاته لأهل الشّام أنّه صالحهم على
الإبقاء على معابدهم من البيع والكنائس داخل المدن وخارجها مصونة، لا يهدم منها
شيء، ولا يغيّر من معالمها شيء، وصالحهم على حقن دمائهم وحفظ حياتهم.
وصالحهم
على الدّفاع عنهم وحمايتهم من اعتداء من يهمّ بالاعتداء عليهم، وصالحهم على أنّ من
قاتلهم أو ناوأهم وجب على المسلمين أن يقاتلوه دونهم، ويدفعوه عنهم بقوّة السّلاح.
فهل هذه المبادئ الّتي تلزم المسلمين أن يحافظوا على معابد أهل الذّمّة والمعاهدين
داخل المدن وخارجها، وتلزمهم بحماية دمائهم أن تسفك والدّفاع عنهم، يمكن أن يشتمّ
منها رائحة غزو ماديّ لنهب ثروات أو جمع أموال؟ أو يتصوّر فيها اعتداء على حرّية
الأديان؟!
ثانيا: إنّ هذه المصالحات الّتي تعتمد على العدل والرّحمة، والّتي
قامت على الرّفق بأهل الذّمّة كان لها أثرها الخطير الّذي استهدفه الإسلام من
فتوحاته.
فقد رأى أهل الذّمّة وفاء المسلمين لهم بشروطهم، وشاهدوا حسن سيرتهم
فيهم، وجرّبوا معاملتهم، فوقفوا معهم مخلصين، وصاروا عونا للمسلمين على أعدائهم،
فكانوا يخبرونهم بأحوال أعدائهم، ليكونوا منهم على حذر واستعداد لملاقاتهم.
بهذه
المعاملة السّمحة، وبهذه السّماحة في المعاملة فتحت بلاد الشّام، ولم تكن هذه
السّياسة الحكيمة الرّحيمة في معاملة أهل الذّمّة هي منهج أبي عبيدة وحده، بل كانت
المنهج الّذي أقام الإسلام دعائمه، وثبّت في شريعته أعلامه. وأعلى في آفاقها
منائره، فهو ليس منهجًا خاصًّا لأمير فتح المصالحة أبي عبيدة توصّل إليه باجتهاده،
وفرضه على ولاته الّذين عملوا تحت إمرته؛ وإنّما هو منهج عامّ في شريعة الإسلام؛
ينبع من مصدريها الأصيلين: القرآن الكريم، والسّنّة النّبويّة المطهّرة.
التسامح مع غير المسلمين:
من الجوانب المضيئة في حضارتنا
الإسلامية، ومن الصفحات المشرقة في سجل تاريخنا الإسلامي الزاخر بالمآثر والمفاخر
والتي نعتز بها: جانب التسامح مع غير المسلمين والإحسان إليهم: هذا الجانب الذي
يشهد بأن الإسلام دين الرحمة والإحسان والعدالة والإنصاف.
هذه المبادئ السامية
والشمائل الكريمة التي كانت عاملا من عوامل انتصار الإسلام.
• ومن أعظم صور هذا التسامح دعوته إلى الإيمان بجميع الأنبياء دون
تفريق بين نبي ونبي، فكلهم جاءوا بدعوة واحدة، ورسالة واحدة، وهدف واحد.
قال
تعالى
﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ
رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ
وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ
﴾ (البقرة: 285).
وحول هذا المعنى يقول -صلى الله
عليه وسلم-:
) أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد علات، ليس بيني وبينه
نبي
(.
• ودعا الإسلام إلى التعاون بين الناس جميعا، فوجه الدعوة إلى
المسلمين خاصة، وإلى سائر الناس عامة، قال تعالى
﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا
تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ الْعِقَابِ
﴾ (المائدة: 2).
• كما أرشد الإسلام إلى أن الاختلاف بين أهل الأديان لا يمنع من
حسن التعامل معهم وتبادل المنافع المادية بينهم، قال تعالى:
﴿ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ
مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ
حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ
﴾ (المائدة: 5).
• وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يتعامل مع أهل الكتاب: فعَنْ
عَائِشَةَ
) أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَىَ مِنْ يَهُودِيّ
طَعامًا إِلىَ أَجلٍ، وَرَهَنَهُ درْعًا لَهُ مِنْ حَدِيدٍ
(.
• شرع الإسلام الجهاد لنشر الحرية وترسيخ العدالة وتحرير الناس من
قيود الطغيان، وانتشالهم من ظلمات الجهل وغياهب الضلال؛ فشرع الجهاد قال تعالى
﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ
الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ
﴾ (الأنفال: 39).
• شرع الجهاد رحمة بالضعفاء، ونصرة
للمظلومين، وعدالة للمغلوبين، وهداية للحائرين، وإذا كنا قد سمعنا أو شاهدنا جرائم
أعداء الإسلام في حق الشعوب المسلمة قديما وحديثا، فإننا نجد في المقابل صورا رائعة
من سماحة المسلمين حين ملكوا وقادوا.
صور من سماحة الإسلام وإحسانه في حالة الحرب:
1. نهى الإسلام
عن قتل الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة وأهل الصوامع والبيع، الذين لا اعتداء من
ناحيتهم ولا خطر من بقائهم، فكان رسولنا -صلى الله عليه وسلم- إذا أرسل جيشا أو
سرية يوصيهم بالإحسان والتسامح والرحمة بالنساء والضعفاء.
ففي الصحيح عن بريدة
رضي الله عنه قال: كان رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- إذا أمّرَ أميرًا على جيشٍ
أو سريةٍ، أوصاه في خاصّتِه بتقوى اللّه تعالى ومَنْ معه من المسلمين خيرًا، ثم
قال:
) اغزوا باسْمِ اللّه في سَبِيلِ اللَّهِ، قاتِلُوا مَنْ كَفَرَ
باللّه، اغْزُوا وَلا تَغُلُّوا ولا تَغْدِرُوا وَلا تُمَثِّلوا وَلا تَقْتُلُوا
وَلِيدًا..
( الحديث.
2. أمر الإسلام بالوفاء بالعهود التي أخذها المؤمنون على أنفسهم أو على
غيرهم وعدم الإخلال بها قال تعالى
﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ
تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ
كَفِيلًا إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ
﴾ (سورة النحل: 91)، وقال سبحانه
﴿ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ
مَسْؤُولًا
﴾ (سورة الإسراء: 34).
فالوفاء بالعهود من سمات
المؤمنين الصادقين، قال تعالى
﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا
وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ
﴾ (البقرة: 177).
3. دعا الإسلام إلى الجنوح للسلام
إذا طلبه الكفار، قال تعالى في سورة الأنفال:
﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
﴾ (الأنفال: 61)، والمقصود بالسلم هنا السلام العادل
المنصف الذي يحفظ للمسلمين عزتهم وكرامتهم ويضمن لهم حقوقهم، فهو سلام من منطق
القوة، سلام العزة والكرامة، وليس سلام الضعفاء الأذلاء المقهورين، فالإسلام لا
يرضى لأتباعه إلا القوة والعزة والأمن والكرامة؛ لذلك فلا عبرة بالسلام المزعوم
المبني على ضعف واستسلام وأكاذيب وأوهام وقبول للمساومات وتقديم للتنازلات، قال
تعالى:
﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
﴾ (آل عمران: 139)، وقال جل وعلا:
﴿ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ
﴾ (محمد: 35).
* لما قدم الرسول -صلى الله عليه
وسلم- المدينة غرس فيها بذور التسامح بين المسلمين وغيرهم، فأقام معاهدة مع اليهود
تنص على السماحة والعفو والتعاون على الخير والمصلحة المشتركة، وحافظ الرسول -صلى
الله عليه وسلم- على هذا الميثاق - ميثاق التعايش السلمي -، لكن اليهود سرعان ما
نقضوه.
* ولما جاء وفد نصارى نجران أنزلهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- في
المسجد، ولما حان وقت صلاتهم تركهم يصلون في المسجد، فكانوا يصلون في جانب منه،
ولما حاوروا الرسول -صلى الله عليه وسلم- حاورهم بسعة صدر ورحابة فكر وجادلهم بالتي
هي أحسن، ومع أنه أقام الحجة عليهم، إلا أنه لم يكرههم على الدخول في الإسلام، بل
ترك لهم الحرية في الاختيار، وقد أسلم بعضهم بعدما رجعوا إلى نجران.
* ولقد كان
-صلى الله عليه وسلم- يوصي كثيرا بأهل الذمة والمستأمنين وسائر المعاهدين، ويدعو
إلى مراعاة حقوقهم وإنصافهم والإحسان إليهم، وينهى عن إيذائهم:
* وروى أبو داود
في السنن عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،
عن آبائهم عن رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- قال:
) ألا من ظلم معاهدًا، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه
شيئًا بغير طيب نفسٍ، فأنا حجيجه -أي أنا الذي أخاصمه وأحاجه- يوم القيامة
(.
*
عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
) من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين
عاما
(.
وإذا أجار أحد من المسلمين مشركا في دار الإسلام فيجب معاونته على ذلك ويحرم
خفر ذمته، ففي الصحيحين عن أبي مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب، أنه سمع أم هانئ بنت
أبي طالب تقول:
) ذهبت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الفتح، فوجدته يغتسل،
وفاطمة ابنته تستره، قالت: فسلمت عليه، فقال: من هذه؟ فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي
طالب، فقال: (مرحبا بأم هانئ). فلما فرغ من غسله. قام فصلى ثماني ركعات، ملتحفا في
ثوب واحد، فلما انصرف، قلت: يا رسول الله، زعم ابن أمي، أنه قاتل رجلا قد أجرته،
فلان بن هبيرة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ
(.
قالت أم هانئ: وذاك ضحى.
ومن مواقف السماحة والعفو في حياته -صلى الله عليه
وسلم-: حينما هم أعرابي بقتله حين رآه نائما تحت ظل شجرة وقد علق سيفه عليه، فعن
جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
) أنه غزا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل نجد، فلما قفل رَسُول
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قفل معهم، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل
رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل رَسُول
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تحت سمرة فعلق بها سيفه، ونمنا نومة فإذا رَسُول
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يدعونا وإذا عنده أعرابي فقال: إن هذا اخترط علي سيفي
وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا، قال: من يمنعك مني؟ قلت: اللَّه ثلاثا، ولم
يعاقبه وجلس.
( مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ومن النماذج الدالة على سماحة الصحابة رضي الله عنهم:
* ما
رواه الإمام الترمذي في السنن عن مُجاهدٍ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عمرو ذُبحتْ لهُ شاةٌ
في أهلهِ، فلمَّا جاءَ قال: أهديتُمْ لجارنَا اليهوديِّ؟ أهديتُمْ لجارنا
اليهوديِّ؟ سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يقول:
) ما زالَ جبريلُ يُوصِيني بالجارِ حتَّى ظننتُ أنَّهُ
سيورِّثُهُ
(.
* وحين مر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بشيخ من أهل الذمة يقف
على الأبواب يسأل الناس قال: ما أنصفناك أن كنا أخذنا المال في شبيبتك وضيعناك في
شيبك، ثم أجرى عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه.
لقد شهد العديد من الساسة
والمؤرخين والمفكرين ورجال الدين من غير المسلمين شهادات منصفة صادقة، أذكر منها:
* يقول الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا: "إن الإسلام يمكن أن يعلمنا طريقة
للتفاهم والعيش في العالم، الأمر الذي فقدته المسيحية، فالإسلام يرفض الفصل بين
الإنسان والطبيعة، والدين والعلم، والعقل والمادة".
وتقول المستشرقة الألمانية
زيغريد هونكه: "لا إكراه في الدين، هذا ما أمر به القرآن الكريم، فلم يفرض العرب
على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، فبدون أي إجبار على انتحال الدين الجديد
اختفى معتنقو المسيحية اختفاء الجليد، إذ تشرق الشمس عليه بدفئها! وكما تميل الزهرة
إلى النور ابتغاء المزيد من الحياة، هكذا انعطف الناس حتى من بقي على دينه، إلى
السادة الفاتحين".
قال جرير بن عطيّة:
غلب المساميح الوليد سماحة | وكفى قريش المعضلات وسادها |
جاء في مأثور الحكمة: السّماح رباح، أي المساهلة في الأشياء تربح
صاحبها.
وقال الشّافعيّ- رحمه اللّه-:
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى | ودافع ولكن بالّتي هي أحسن |
من فوائد (السماحة):
1- يحبّها اللّه ورسوله والملائكة
المقرّبون.
2- يضفيها اللّه على وجوه المؤمنين لتكون لهم علامة مميّزة في
الدّنيا والآخرة.
3- السّمح محبوب لدى أهله ومجتمعه.
4- السّماحة في البيع
والشّراء باب عظيم من أبواب كسب الرّزق وتكثيره.
5- السّماحة تجلب التّيسير في
الأمور كلّها.
6- بالسّماحة يغنم الإنسان أكبر قدر من السّعادة وهناءة
العيش.
7- يجلب سمح النّفس الخير الدّنيويّ؛ حيث يميل النّاس إلى التّعامل معه؛
فيكثر عليه الخير بكثرة محبّيه والمتعاملين معه.
8- السّماحة في التّعامل مع
أصحاب الدّيانات الأخرى تجلب لهم الطّمأنينة والأمن، فيؤدّي ذلك إلى حبّهم
للمتسامحين معهم ومعاونتهم، ثمّ الدّخول في هذا الدّين الّذي يقرّ مبدأ التّسامح مع
الآخرين، وقد حدث ذلك عقب الفتوح الإسلاميّة.
المراجع:
- (الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال
المستقبل) جمع وإعداد/ علي بن نايف الشحود.
- (صورة من سماحة الإسلام) لأحمد بن
محمد الشرقاوي.
- (نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه
وسلم) إعداد/ مجموعة من الباحثين بإشراف صالح بن حميد وعبد الرحمن بن ملوح.