يقول
الدكتور أحمد عَلْوَشْ: (قد يتساءل الكثيرون عن السبب في عدم انتشار
الدعوة إلى التصوف في صدر الإسلام، وعدم ظهور هذه الدعوة إلا بعد عهد
الصحابة والتابعين ؛ والجواب عن هذا: إنه لم تكن من حاجة إليها في العصر
الأول، لأن أهل هذا العصر كانوا أهل تقوى وورع، وأرباب مجاهدة وإقبال على
العبادة بطبيعتهم، وبحكم قرب اتصالهم برسول الله صلى الله عليه وسلم،
فكانوا يتسابقون ويتبارون في الاقتداء به في ذلك كله، فلم يكن ثمَّة ما
يدعو إلى تلقينهم علماً يرشدهم إلى أمرٍ هُم قائمون به فعلاً، وإنما مثلهم
في ذلك كله كمثل العربي القُحِّ، يعرف اللغة العربية بالتوارث كابراً عن
كابر؛ حتى إنه ليقرض الشعر البليغ بالسليقة والفطرة، دون أن يعرف شيئاَ من
قواعد اللغة والإعراب والنظم والقريض، فمثل هذا لا يلزمه أن يتعلم النحو
ودروس البلاغة، ولكن علم النحو وقواعد اللغة والشعر تصبح لازمة وضرورية عند
تفشي اللحن، وضعف التعبير، أو لمن يريد من الأجانب أن يتفهمها ويتعرف
عليها، أو عندما يصبح هذا العلم ضرورة من ضرورات الاجتماع كبقية العلوم
التي نشأت وتألفت على توالي العصور في أوقاتها المناسبة.
فالصحابة
والتابعون ـ وإن لم يتسموا باسم المتصوفين ـ كانوا صوفيين فعلاً وإن لم
يكونوا كذلك اسماً، وماذا يراد بالتصوف أكثر من أن يعيش المرء لربه لا
لنفسه، ويتحلى بالزهد وملازمة العبودية، والإقبال على الله بالروح والقلب
في جميع الأوقات، وسائر الكمالات التي وصل بها الصحابة والتابعون من حيث
الرقي الروحي إلى أسمى الدرجات فهم لم يكتفوا بالإقرار في عقائد الإيمان،
والقيام بفروض الإسلام، بل قرنوا الإقرار بالتذوق والوجدان، وزادوا على
الفروض الإتيان بكل ما استحبه الرسول صلى الله عليه وسلم من نوافل
العبادات، وابتعدوا عن المكروهات فضلاً عن المحرمات، حتى استنارت بصائرهم،
وتفجرت ينابيع الحكمة من قلوبهم، وفاضت الأسرار الربانية على جوانحهم.
وكذلك كان شأن التابعين وتابعي التابعين، وهذه العصور الثلاثة كانت أزهى
عصور الإسلام وخيرها على الإطلاق، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قوله: "خير القرون قرني هذا فالذي يليه والذي يليه" ["خير الناس قرني هذا
ثم الذين يلونهم.." أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الشهادات. وفي "صحيح
مسلم" في فضائل الصحابة عن ابن مسعود رضي الله عنه].
فلما تقادم
العهد، ودخل في حظيرة الإسلام أُمم شتى، وأجناس عديدة، واتسعت دائرة
العلوم، وتقسمت وتوزعت بين أرباب الاختصاص؛ قام كل فريق بتدوين الفن والعلم
الذي يُجيده أكثر من غيره، فنشأ ـ بعد تدوين النحو في الصدر الأول ـ علم
الفقه، وعلم التوحيد، وعلوم الحديث، وأصول الدين، والتفسير، والمنطق،
ومصطلح الحديث، وعلم الأصول، والفرائض "الميراث" وغيرها..
وحدث بعد
هذه الفترة أن أخذ التأثير الروحي يتضاءل شيئاً فشيئاً، وأخذ الناس يتناسون
ضرورة الإقبال على الله بالعبودية، وبالقلب والهمة، مما دعا أرباب الرياضة
والزهد إلى أن يعملوا هُم من ناحيتهم أيضاً على تدوين علم التصوف، وإثبات
شرفه وجلاله وفضله على سائر العلوم، ولم يكن ذلك منهم احتجاجاً على انصراف
الطوائف الأخرى إلى تدوين علومهم ـ كما يظن ذلك خطأً بعض المستشرقين ـ بل
كان يجب أن يكون سداً للنقص، واستكمالاً لحاجات الدين في جميع نواحي
النشاط، مما لا بد منه لحصول التعاون على تمهيد أسباب البر والتقوى"
["المسلم مجلة العشيرة المحمدية" عدد محرم 1376هـ. من بحث: التصوف من
الوجهة التاريخية للدكتور أحمد علوش، وهو من الرواد الأوائل الذين نقلوا
حقائق التصوف الإسلامي إلى اللغات الأجنبية، وقد ألف فضيلته كتاباً باللغة
الإنكليزية عن التصوف الإسلامي، كان له أكبر الأثر في تصحيح الأفكار والرد
على المستشرقين كما ألف كتابه "الجامع" عن الإسلام الذي رد فيه على التهم
المفتراة على دين الله، وكان له أثره البعيد في خدمة هذا الدين].
وقد بنى أئمة الصوفية الأولون أصول طريقتهم على ما ثبت في تاريخ الإسلام نقلاً عن الثقات الأعلام.
أما
تاريخ التصوف فيظهر في فتوى للإمام الحافظ السيد محمد صديق الغماري رحمه
الله، فقد سئل عن أول من أسس التصوف ؟ وهل هو بوحي سماوي ؟ فأجاب:
(أما
أول من أسس الطريقة، فلتعلم أن الطريقة أسسها الوحي السماوي في جملة ما
أسس من الدين المحمدي، إذ هي بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين
الثلاثة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما بيَّنها واحداً واحداً
ديناً بقوله: "هذا جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم" [جزء من حديث
أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان عن عمر بن الخطاب رضي الله
عنه] وهو الإسلام والإيمان والإحسان.
فالإسلام طاعة وعبادة، والإيمان نور وعقيدة، والإحسان مقام مراقبة ومشاهدة: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"...
ثم
قال السيد محمد صديق الغماري في رسالته تلك: (فإنه كما في الحديث عبارة عن
الأركان الثلاثة، فمن أخل بهذا المقام(الإحسان) الذي هو الطريقة، فدينه
ناقص بلا شك لتركه ركناً من أركانه. فغاية ما تدعو إليه الطريقة وتشير إليه
هو مقام الإحسان؛ بعد تصحيح الإسلام والإيمان) ["الانتصار لطريق الصوفية" ص
6 للمحدث محمد صديق الغماري].
قال ابن خلدون في مقدمته:
(وهذا
العلم ـ يعني التصوف ـ من العلوم الشرعية الحادثة في الملَّة ؛ وأصله أن
طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومَن
بعدهم طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة، والانقطاع إلى
الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد في ما يقبل عليه
الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق، والخلوة للعبادة، وكان ذلك
عامَّاً في الصحابة والسلف. فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني
وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم
الصوفية) ["مقدمة ابن خلدون" علم التصوف ص 329].
ويعنينا من عبارة
ابن خلدون الفقرة الأخيرة، التي يقرر فيها أن ظهور التصوف والصوفية كان
نتيجة جنوح الناس إلى مخالطة الدنيا وأهلها في القرن الثاني للهجرة، فإن
ذلك من شأنه أن يتخذ المقبلون على العبادة اسماً يميزهم عن عامة الناس
الذين ألهتهم الحياة الدنيا الفانية.
يقول أبو عبد الله محمد صديق
الغماري: (ويَعْضُدُ ما ذكره ابن خلدون في تاريخ ظهور اسم التصوف ما ذكره
الكِنْدي ـ وكان من أهل القرن الرابع ـ في كتاب "ولاة مصر" في حوادث سنة
المائتين: إنه ظهر بالاسكندرية طائفة يسمَّوْن بالصوفية يأمرون بالمعروف.
وكذلك ما ذكره المسعودي في "مروج الذهب" حاكياً عن يحيى بن أكثم فقال: إن
المأمون يوماً لجالس، إذ دخل عليه علي بن صالح الحاجب، فقال: يا أمير
المؤمنين! رجل واقفٌ بالباب، عليه ثياب بيض غلاظ، يطلب الدخول للمناظرة،
فعلمت أنه بعض الصوفية. فهاتان الحكايتان تشهدان لكلام ابن خلدون في تاريخ
نشأة التصوف. وذُكر في "كشف الظنون" أن أول من سمي بالصوفي أبو هاشم الصوفي
المتوفى سنة خمسين ومئة) ["الانتصار لطريق الصوفية" للمحدث الغماري ص17 ـ
18].
وأورد صاحب "كشف الظنون" في حديثه عن علم التصوف كلاماً للإمام
القشيري قال فيه: (اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
لم يَتَسمَّ أفاضلهم في عصرهم بتسمية عِلْمٍ سوى صحبة الرسول عليه الصلاة
والسلام، إذ لا أفضلية فوقها، فقيل لهم الصحابة، ثم اختلف الناس وتباينت
المراتب، فقيل لخواص الناس ـ ممن لهم شدة عناية بأمر الدين ـ الزهاد
والعُبَّاد، ثم ظهرت البدعة، وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادعوا أن
فيهم زهاداً، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله سبحانه
وتعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف، واشتهر هذا الاسم
لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة) ["كشف الظنون" عن أسماء الكتب
والفنون، لحاجي خليفة ج1/ص414].
من هذه النصوص السابقة، يتبين لنا
أن التصوف ليس أمراً مستحدثاً جديداً؛ ولكنه مأخوذ من سيرة الرسول صلى الله
عليه وسلم وحياة أصحابه الكرام، كما أنه ليس مستقى من أُصول لا تمت إلى
الإسلام بصلة، كما يزعم أعداء الإسلام من المستشرقين وتلامذتهم الذين
ابتدعوا أسماءً مبتكرة، فأطلقوا اسم التصوف على الرهبنة البوذية، والكهانة
النصرانية، والشعوذة الهندية فقالوا: هناك تصوف بوذي وهندي ونصراني
وفارسي...
يريدون بذلك تشويه اسم التصوف من جهة، واتهام التصوف بأنه
يرجع في نشأته إلى هذه الأصول القديمة والفلسفات الضالة من جهة أخرى، ولكن
الإنسان المؤمن لا ينساق بتياراتهم الفكرية، ولا يقع بأحابيلهم الماكرة،
ويتبين الأمور، ويتثبت في البحث عن الحقيقة، فيرى أن التصوف هو التطبيق
العملي للإسلام، وأنه ليس هناك إلا التصوف الإسلامي فحسب.