قبل حديثنا
عن مراحل السير إلى الله تعالى يجدر بنا أولا تحديد مدلول بعض المفاهيم
والتي تعتبر مفاتيح ضرورية للفهم وهي مفهوما القلب و التجرد .
– مفهوم القلب :
يتضح
من خلال القرآن والحديث أن القلب جارحة باطنية خلق فيه الله تعالى
استعدادا لمعرفته . وهذا الاستعداد إما أنه يستثمر وينمى ، أو يوجه توجيها
خاطئا نحو قيم بديلة عن الله كالمال والجاه والإيديولوجيات السياسية الخ ..
وهذه البدائل كلها لا تطفئ عطش قلب الإنسان لربه ، بل تزيد من توتره الناتج عن عدم حصول الإشباع لديه .
وأصل
هذا الاستعداد راجع إلى كون الحق سبحانه وتعالى " خلق آدم على صورته " (
رواه مسلم). والصورة لها ميل غريزي وتلقائي إلى الرجوع إلى مصدرها ،
والاندماج فيه إذا أزيلت عنها الحواجز والحجب .
وإن
القلب الذي هو محل هذا الاستعداد هو " الجهاز الروحي " الذي يجهله الكافر
في نفسه ، أو هو جهاز مشغل تشغيلا ناقصا لدى المؤمن الذي لم يتلق التربية
الروحية، مما يستوجب ضرورة عرضه على أخصائي ( وهو الشيخ العارف بالله )
لإصلاح أعطابه ، وجعله قادرا على التقاط الأنوار الإلهية المبثوثة في
الوجود .
إن
القلب الذي تناط به مسؤولية وعبء حمل الصورة الإلهية ( أي قابليته للاتصاف
بالأوصاف الإلهية ) ليكون محل نظر الحق من الوجود يتطلع بالضرورة إلى الله
تعالى إذا أزيحت من أمامه العوارض . فالملائكة سجدوا للصورة الإلهية
المتجلية في شخص آدم الترابي ، ولم يسجدوا لهيكله الطيني .
وعطل هذا الجهاز ناتج عن عدم تشغيله ، وتشغيله يكون باشتغاله بالله . فيكون عطله إذن في غفلته عن الله .
والغفلة ناتجة عن تراكم سحب النفس في سماء القلب وتلبدها في فضائه مما يحجب شمس الحقيقة ، والتي لا يتسلل منها إلا شعاع ضعيف وباهت .
ويحدد ابن عطاء الله في حكمه طبيعة هذه السحب النفسية ومصدرها :
- "
أصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضا عن النفس . وأصل كل طاعة ويقظة وعفة عدم
الرضا منك عنها . ولأن تصاحب جاهلا لا يرضى عن نفسه خير لك من أن تصاحب
عالما يرضى عن نفسه . فأي علم لعالم يرضى عن نفسه ، وأي جهل لجاهل لا يرضى
عن نفسه " .
- " تمكن حلاوة الهوى من القلب هو الداء العضال" .
- "
كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته ، أم كيف يرحل إلى الله وهو
مكبل بشهواته ، أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله ولم يتطهر من جنابة غفلاته ،
أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته؟ ".
- " لا يخاف أن تلتبس الطريق عليك وإنما يخاف عليك من غلبة الهوى عليك ".
- " ربما وردت عليك الأنوار فوجدت القلب محشوا بصور الآثار فارتحلت من حيث نزلت".
وسحب
النفس تشف تدريجيا ، فتكون ذات ظلمانية كثيفة على مستوى النفس الأمارة
بالسوء ، ثم ذات ظلمانية أقل كثافة على مستوى النفس اللوامة ، ثم نورانية
كثيفة على مستوى النفس الراضية ، ثم نورانية شفافة على مستوى النفس
المرضية.
وفي
كل هذه الحالات تعتبر النفس في كل أطوارها المشجب التي تستقر عليه سحب
التعلقات الكونية ، والتي لا تنزاح كلية عن مرآة القلب إلا بزوال النفس
زوالا شعوريا (حالة الفناء) ، ثم زوال الشعور بهذا الفناء نفسه ( فناء
الفناء ) ، حيث لا تجد مكانا تستقر عليه. وبذلك يتم تحرير القلب "المعتقل"
وراء قضبان النفس .
– مفهــوم التجــرد :
بعد
تشخيص المرض يجب تبديد وإجلاء السحب عن سماء القلب، ظلمانية كانت أن
نورانية ، كثيفة أم شفافة ، أي في التجرد. يقول ابن عطاء الله في هذا الصدد
:
- " فرغ قلبك من الأغيار يملؤه بالمعارف والأسرار، ولا تستبطئ منه النوال ولكن استبطئ من نفسك وجرد الإقبال " .
- " لا ترحل من كون إلى كون فتكون كحمار الرحى يسير والمكان الذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه ، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون " .
- "
إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده . جعله لك
عدوا ليحوشك به إليه، وحرك عليك النفس لتديم إقبالك عليه ".
- "
إن أردت أن لا تعزل فلا تتول ولاية لا تدوم لك ، إن رغبتك البدايات زهدتك
النهايات، إن دعاك إليها ظاهر نهاك عنها باطن . إنما جعلها محلا للأغيار
ومعدنا لوجود الأكدار تزهيدا لك فيها . علم أنك لا تقبل النصح المجرد فذوقك
من ذواقها ما يسهل عليك وجود فراقها " .
و السير إلى الله يكاد يتمحور كله حول مفهوم التجرد الذي يعتبر مفهوما مركزيا في السلوك الصوفي.
ففي كل مرحلة من مراحل السير إلى الله يتجرد القلب ويخلع عنه صفات معينة
للدخول إلى المرحلة التي تليها. فعملية التجرد عملية مستمرة لا تتوقف إلى
بالفناء الكلي للنفس ( تجرد باطني من الأشياء المادية ، تجرد شعوري من
الأعمال والطاعات ، وتجرد من التجرد نفسه ) .
ويعبر ابن عطاء الله عن ذلك قائلا:
- "
ما أرادت همة سالك أن تقف عندما كشف لها إلا ونادته هواتف الحقيقة ، الذي
تطلبه أمامك . ولا تبرجت ظواهر المكونات إلا ونادته حقائقها : إنما نحن
فتنة فلا تكفر " .
لأنه :
- " ربما وقفت القلوب مع الأنوار كما حجبت النفوس بكثائف الأغيار ".
شعر : تحليقات حزينة لطائر شارد عن عشه :
1 – أنى لطير شارد عـن عشه
تائه عن سربه
والسرب ضل الطريق لغابه
أن يجد الطريق لعشه
تلك مأساة إنسان شذ عن ربه
2 – السرب لم يهتد لغابـه
لأنه ضل الطريق لدربه
والدرب قد اختفى عن عينه
تلك مأساة إنسان تاه عن ربه
3 – السرب ضل الطريق لدربه
كان الدرب هاهنا بقربه
كيف اختفى عن عينه ؟
لم يختف الدرب عن عينه
فهو قريب قريب بحذوه
لكن النور اختفى من عينه
لذا لم يبصر الدرب بحذوه
فضل الطريق لغابه
ولم يجد الطير الطريق لعشه
تلك مأساة إنسان حاد عن ربه
4 – وقف الطير بعيدا عن سربه
بحث في خريطة نفسه
وأصغى لدقات قلبه
سمعها تهتف قائله له :
لما كنت فرخا عاريا من ريشه
ضمك العش لصدره
وحن عليك بعطفه
لما صرت طيرا نبت الريش بجنبه
نبت الغرور برأسه
طار بعيدا عن عشه
حسب النجاة في ريشه
فضل الطريق لعشه
5 – ليعود الطير إلى عشه
لبس جناح الريح وطار به
ثم أغفى ونام بكفه
أسقطه الريح في عشه
وضمه العش لصدره
حن عليه بعطفه
فالعش ريش لمن تجرد عن ريشه
يميز
الصوفية في هذا الصدد بين خمسة أطوار للنفس بحسب درجة طهارتها : النفس
الأمارة بالسوء ، النفس اللوامة ، النفس المطمئنة ، النفس الراضية ، النفس
المرضية ، النفس الكاملة .
والنفس عند الصوفية هي نتيجة اتصال الروح بالهيكل الجسدي الذي تتولى تدبيره.
1 – النفس الأمارة بالسوء :
إن
النفس الأمارة بالسوء هي النفس الفرويدية مستودع الرغبات. والمبدأ الذي
يتحكم في سلوكها هو " استقصاء اللذة ( حسية أو معنوية) بأدنى كلفة ممكنة ".
وكقوة مهيمنة فهي تستولي على القلب وتوجهه نحو الارتباط بقيم مادية أو
سياسية أو ثقافية لإشباع رغبتها واستقصاء لذتها . ولا يمكن التخفيف من حدة
هذه النزعة إلا بالتربية الروحية التي تحول الرغبة في استقصاء اللذة الحسية
أو المعنوية إلى " الحاجة إلى التوازن" .
إن
النفس الأمارة بالسوء بحكم موقعها الهيمني، وفي غياب أي جهد لإضعاف نفوذها
، تفرض على القلب رغباتها على مضض منه. كما أن الفكر يصبح خديمها والناطق
باسمها حيث يقوم بتبرير اختياراتها تبريرا "عقلانيا" . وبذلك تصبح مفاهيم
الفكر كـ " الموضوعية " و "العقلانية " مفاهيم فارغة لأنها تبرر اختيارات
سابقة للنفس الأمارة .
إلا
أن النفس الأمارة ، بالرغم من إشباع جميع رغباتها واستيفاء جميع مطالبها ،
تظل نهبا للشعور بالضنك الذي يخيم عليها بظله القاتم فاضحا بذلك عورات "
الآلهة الجديدة " التي صاغتها النفس لنفسها .
وهذا
الضنك التي هو مثار جدل واسع في التحليل النفسي والسوسيولوجي يبقى بدون
تفسير لدى الأفراد والجماعات التي تقتلها الغربة والشعور بالوحدة الوجودية
في " أدغال" المدن العملاقة ، والتي تعاني من "عجز" روحي مزمن .
إلا
أن ما تجدر إليه الإشارة هنا هو أن النفس الأمارة بالسوء بإحلال حظوظها
محل حقوق الربوبية التي هي نقيض هذه الحظوظ ، تريد أن تنصب نفسها إله محررا
من كل القيود بالرغم من الأصفاد الموضوعية التي تكبلها ( الموت، العجز،
الجهل … ). فهي تريد أن تستولي على أوصاف الربوبية ( الإشارة هنا في الحديث
: العز إزاره والكبرياء رداؤه فمن ينازعني عذبته) لإشباع رغبتها في
استقصاء لذتها الحسية ( المتعة ) والمعنوية ( القوة ) .
إلا أن خلاصها يكمن في التزامها بحدودها الموضوعية من عجز وذل وضعف … التي تتنافى مع أوصاف الربوبية .
يقول ابن عطاء الله في هذا الصدد :
- " منعك أن تدعي ما ليس لك مما هو للمخلوقين ، أفيبيح لك أن تدعي وصفه وهو رب العالمين".
- " المؤمن يشغله الشاغل لله عن أن يكون لنفسه شاكرا ، وتشغله حقوق الله عن أن يكون لحظوظه ذاكرا ".
- " كن بأوصاف ربوبيته متعلقا وبأوصاف عبوديتك متحققا".
ذلك
أن حقوق الربوبية أسبق على حظوظ النفس كما يقتضي ذلك مبدأ العبودية لله.
فللنفس حق واحد هو " حق العبودية لله " الذي يخول لها كل الحقوق . فحق
الربوبية الذي هو العبودية من العبد يتنافى مع رغبة النفس التي هي
الاستيلاء على أوصاف الربوبية. ولا يتم حل هذا الإشكال إلا في ظل الشريعة
حيث يتم صرف رغبة النفس في الاستيلاء على أوصاف الربوبية في اتجاه إقرار
العبودية . فإشباع " الحاجات المباحة" لتحقيق اللذة يعتبر عملا تعبديا
مأجورا (الإشارة هنا إلى الحديث الشريف : وفي بضع أحدكم أجر). كما أن توظيف
الأوصاف الإلهية لخدمة الربوبية مطلوب شرعا " ولله العزة ولرسوله
وللمؤمنين " .
إن
العبودية لله هي التي تنفي أنا النفس الأمارة وتؤكد الأنا الإلهية. فيصبح
القلب محلا لتجلي أوصاف الربوبية ، والتي كانت النفس الأمارة تسعى إلى
الاستيلاء عليها غصبا لاستقصاء لذتها الحسية والمعنوية.
وأوصاف الربوبية الذاتية هي : الحياة والعلم والقدرة والغنى والكبرياء … تقابلها لدى الإنسان : العدم والجهل والعجز، والفقر والذل … التي تعتبر أوصافا ذاتية للعبد.
وإن
نزوع النفس الأمارة بالسوء إلى الاستيلاء على أوصاف الربوبية الذاتية ، أي
الاستحواذ على الصورة الإلهية والتمتع بها ، هو الذي يفسر نزعتها
الهيمنية، وكذلك أوهامها، وبالتالي خسرانها.
فالنفس
إذا لزمت شعوريا حدودها الموضوعية من ضعف وجهل .. واتصفت بأوصافها الذاتية
… وخضعت لله بتوظيف أوصافه لخدمته لا لمزاحمته فيها ، فإن الحق سبحانه
وتعالى يخلع عليها تلك الأوصاف استحقاقا ذاتيا لها . وهذا ما يشير إليه
الحديث القدسي : عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : إن الله تعالى قال : من عادى لي وليا آذنته بالحرب. وما يتقرب
إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي
بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به
، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها . وإن سألني أعطيته ولئن
استعاذني لأعيذنه" ( رواه البخاري ) .
فالعبودية لله هي المصدر التي تتدفق منه أوصاف الربوبية لتكسو بجلبابها القلب الخاضع لمولاه.
يقول ابن عطاء الله:
- " تحقق بأوصافك يمدك بأوصافه . تحقق بذلك يمدك بعزه ، تحقق بعجزك يمدك بقدرته ، تحقق بضعفك يمدك بحوله وقوته".
-" ورود الفاقات أعياد المريدين . ربما وجدت من المزيد في الفاقات ما لم تجده في الصوم والصلاة " .
- " الفاقات بسط المواهب ".
- " إن أردت ورود المواهب عليك صحح الفقر والفاقة لديك . ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين) " .
-" اخرج من أوصاف بشريتك عن كل وصف مناقض لعبوديتك لتكون لنداء الحق مجيبا ومن حضرته قريبا ".
أما
من يفتقر إلى غير الله فيزداد فقرا . ومن يتذلل لغيره يزداد ذلا… وهذا هو
القانون الذي يتحكم في العلاقة الشعورية التي تربط العبد بالأكوان.
إن الله سبحانه وتعالى أخفى مفتاح معرفته في الأضداد ، وليس في المترادفات والأشباه ، حيث لا يهتدي إليها العقل المكسوف الأنوار.
فمنطق
العقل يدفع بالإنسان إلى البحث عن الغنى في الغنى ، وعن القوة في القوة ،
وعن القدرة في القدرة ، وعن الكبرياء في الكبرياء حيث لا يكتشف إلا وهم
الغنى ووهم القوة ووهم القدرة ووهم الكبرياء… كالعطشان الذي يريد أن يطفئ
عطشه بماء البحر، فلا يزيده الشرب إلا عطشا.
إن
منازعة الربوبية هي مصدر شقاء النفس الأمارة بالسوء وحرمانها . وهذه
المنازعة لا يمكن معالجتها بالتأمل الفلسفي أو بأية إرادة صادرة عن النفس .
فما دامت النفس الأمارة هي مركز القرار في شخصية الإنسان ، فإنها لا تصدر
إلا القرارات التي تعزز هيمنتها ونفوذها .
والقلب
الهزيل الذي يعاني من "سوء تغذية" روحية لا يستطيع وحده مواجهة النفس
الأمارة إلا في ثلاث حالات ذكرهم ابن عطاء الله في حكمه : الخوف والشوق
وصحبة العارفين.
- " لا يخرج الهوى من القلب إلا خوف مزعج أو شوق مقلق "
- " لا تصحب من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله ".
إن
مهمة الأنبياء والرسل كانت دائما هي دعم القلوب بالأنوار التي تعتبر قوتها
اليومي للحفاظ على صحتها وتوازنها وتحصيل طهارتها. وهذه المهمة منوطة أيضا
بورثتهم الروحيين من العارفين والأولياء .
يقول ابن عطاء الله :
- " النور جند القلب كما أن الظلمة جند النفس. فإذا أراد الله أن ينصر عبده أمده بجنود الأنوار، وقطع عنه مدد الظلم والأغيار" .
- " الأنوار مطايا القلوب والأسرار".
إن
ذكر الله تعالى يعتبر العلاج المناسب والفعال الذي تبنته جميع الأديان
لمعالجة أمراض القلب وتحقيق شفائه منها . فهو يشكل "المضاد الحيوي" الروحي
الذي يهاجم النواة الصلبة الداخلية لإرادة الشر في الإنسان التي هي جرثومة
الخاطر السيء.
ذلك
أن الخاطر السيء إذا وجد أرضية خصبة للانتشار، أي قلبا غافلا عن الله ،
فإنه ينغرس فيها ثم يتجذر ليصبح هما ثم نية ثم إرادة ثم فعلا.
وهذا
الخاطر السيء يتم استئصاله بتسليط أنوار الذكر عليه التي تثمر الواردات
الإلهية التي تقوض إرادة الشر في الإنسان . وباستئصاله يتم إجهاض الأعمال
السيئة التي كان سيتحول إليها.
يقول ابن عطاء الله :
-
" متى وردت الواردات الإلهية عليك هدمت العوائد منك (إن الملوك إذا دخلوا
قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة). الوارد يأتي من حضرة قهار، لأجل ذلك
لا يصادمه شيء إلا دمغه (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق)".
- "
إذا رأيت عبدا أقامه الله تعالى بوجود الأنوار وأدامه عليها مع طول
الأمداد ، فلا تستحقرن ما منحه مولاه لأنك لم تر عليه سيما العارفين ولا
بهجة المحبين ، فلولا وارد ما كان ورد".
كما
أن خاصية ذكر الله تعالى هي تحقيق التجرد "الشعوري" من الأشياء مع
امتلاكها ، لا التجرد المادي منها . ذلك أننا قد لا نملك شيئا ونتشوق إلى
تحصيله فنكون مرتبطين به شعوريا وإن كنا لا نملكه ماديا . فمن يملك الشيء
وهو زاهد فيه خير ممن لا يملكه وهو طامع فيه.
وإن
مؤشر الزهد الباطني في الأشياء عند الصوفية هي : اللامبالاة الشعورية . أي
أن لا يتأثر شعورنا إذا فقدنا شيئا أو إذا حصلنا عليه . ونتعامل مع النعم
باعتبارها صادرة عن المنعم بها تعالى لا باعتبارها تحقق متعة أو تفيد لذة .
وهذا لا ينفي تلذذنا بها ، بل تنضاف إلى اللذة الحسية لذة معنوية وروحية.
يقول ابن عطاء الله :
- " لا تفرح بالنعمة وافرح بالمنعم بها عليك ".
وإن
الشقاء الذي يعانيه الإنسان يكمن في ارتباطه الشعوري بالأشياء وبالقيم
المادية ، فإذا فقدها أو لم يحصِّلها أثار ذلك لديه شعورا بالحرمان .
فالحضارة المادية تؤدي إلى حدوث اختلالات نفسية لدى الإنسان لا بالنظر إلى
ماديتها ولكن لأنها تنسج على قلبه الغافل خيوطا من الارتباطات الشعورية
تؤدي إلى تفقيره روحيا ، وبالتالي إلى إشقائه.
فلو
أن القلب ظل فارغا من التعلق بها ، وتلك مهمته التي خلق من أجلها ، لكان
محط النظر الإلهي ، ومحل التجليات والفيوضات النورانية التي تملؤه سعادة
وحبورا . فالأنوار الإلهية لا تستقر إلا في القلوب الفارغة المهيأة
لاستقبالها .
وهكذا
وبفضل هذه " القطيعة الشعورية" مع الأشياء لا تشكل الحضارة المادية
بخيراتها المادية المتنوعة (المباحة) أي خطر يتهدد التوازن الروحي للإنسان
ما دام أنه غير مرتبط بها شعوريا.
إن
التعلق الشعوري بالأشياء وبكل " ما سوى الله تعالى" هو نتيجة الطمع الذي
يصرف القلب عن مولاه . وفي صرفه عن مولاه إذلال له وإهانة.
يقول ابن عطاء الله :
- " ما بسقت أغصان ذل إلا عن بذر طمع ".
وتحرير الشعور من التعلق "بما سوى الله" لا يتأتى إلا بحصول اليأس منها.
يقول ابن عطاء الله :
- " أنت حر مما أنت منه آيس، وعبد لما أنت فيه طامع ".
واليأس منها لا يتم إلا بالطمع في ربها.
إن
المعادلة السلوكية للنفس الأمارة بالسوء هي : " منك إليك بك ". وهي معادلة
لا تسري فيها أية نورانية لغياب الله منها غيابا تاما. فالنفس تعمل فقط
على إشباع رغباتها واستقصاء لذتها الحسية والمعنوية.
وأوصاف النفس الأمارة بالسوء هي: الحرص، البخل، الكبر، الغضب، الحسد، الكذب…
2-النفس اللوامة
3- النفس المطمئنة
4- النفس الراضية
5- النفس المرضية6- النفس الكاملة .